نحن في عالم آخر من ظلمات الصحراء المعتمة.. عالم لا تكاد تسمع فيه سوى نهيق الحمر المستنفرة أو نعيب الأبوام في غابات بعيدة تخبئ داخلها أسلحة ثقيلة وخفيفة.. تبصر ذات اليمين وذات الشمال فلا تصادف عينك سوى نار خافتة على مد البصر.. نحن في عالم خشن ملؤه الظلام المدلهم بين مقاتلي أزواد الأشداء وبين لاجئين هاربين إلى أرض أكثر أمان..
الصحراء الجرداء في الليل المدلهم تعيش في هدوء صامت ينبئ بعاصفة من القتال العنيف الذي سيبدأ لا محالة مع غبش الفجر وتباشير الصباح القادم بعد سويعات.... نحن في غابة نسللنا إليها مع المقاتلين المتمردين في ساعات الأصيل... نحن في صراع تحكيه عتمة الليل الطويل لقوم ما عرفوا الهدوء.. حتى سياراتهم تمر من داخل الغابة بلا مصابيح.. هدوء الصحراء وضمتها المطبق يتحدث عن علاقة غامضة بين سكون الليل وبين الخشونة والشجاعة وكل أنواع الفروسية..
عشنا عشرين ليلة وليلة مع مقاتلي "أزواد" بمختلف توجهاتهم وأهدافهم وقضينا معهم عدة أيام الهجير .. عشنا معهم.. صدقوني ضاحكنا من يقبل الضحك وهم القلة المازحين، وجالسنا بعض الملاحقين المطالبين واسترقنا النظر من فجوات اقنعة المقنّعين.
ليالي كنت سأقصها عليكم لكني خشيت أن أجانب الصواب وأن أحكيها بطريقة خشنة فأنا القادم من "أزواد" القتال ولم يعد لدي ذوق لأنني بصراحة بت ليالي في الظلمات فقدت فيها الإحساس إن كان ثمة إحساس، فأمسكت عن الكتابة حتى لا يكون حديثي مثل حديث الأعراب البدو، أو أكتب لكم على طريقة الشاعر الصحراوي علي بن الجهم حين يخاطب الأميير مادحا:
أنت كالكلب في حفاظـك للـود و كالتيس في قراع الخطوب
أمسكت عن الكتابة عن هذه المواضيع كلها منذ سنوات ... سامحوني.