كان وضع الحجر الأساسي للمقر الجديد للمركز الوطني لأمراض القلب بنواكشوط، قريبا من مباني المركب الجامعي (شمالي العاصمة) نقلة نوعية في تاريخ قطاع الصحة في موريتانيا، واستجابة لآمال وطموحات كل الموريتانيين في رؤية بنية طبية عصرية متخصصة موريتانية الوجه واليد واللسان.
وفى قطاع الصحة فإن النظر عادة إلى مشاريع من هذا القبيل لا يكتسي صبغة سياسية من أي نوع، فالمهم بالنسبة لعماله هو إيجاد بنية صحية مجهزة تخدم البلاد والعباد، وتبقى لأجيال قادمة، بغض النظر عن صاحب فكرتها وتمويلها ورعايتها، فشعار القطاع هو دائما "المهم أن يأتي المطر وليس من المهم التقصي عن الجهة التي يأتي منها".
لقد كان إيجاد مركز وطني متخصص في أمراض القلب والشرايين حلما وطموحا مشروعا لقطاع الصحة، وللشعب الموريتاني كله.
والواقع أن مسافات كثيرة حرقت لتحقيق ذلك الطموح، فكان إعلان الدولة الموريتانية عن إنشاء بنية طبية متخصصة عهد إليها بالتكفل بمرضى القلب والشرايين، بموجب مرسوم حكومي صادر بتاريخ18 يناير2009 (عرفت البنية باسم "المركز الوطني لأمراض القلب"واعتبرت لاحقا مؤسسة عمومية ذات طابع إداري تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلالية المالية وتخضع لوصاية وزارة الصحة) بداية طريق شاق وصعب وطويل نحو إنجاز الطموح وتحقيق الحلم.
منحت المؤسسة الطبية الجديدة مقرا مؤقتا، هو المقر السابق ل"مستشفى الصباح للأمراض الصدرية" الذي تحول إلى مصلحة ملحقة ب"مركز الاستطباب الوطني" بعد انحسار مرض "السل الرئوي" ونجاح العلاجات والبرامج الدولية و الوطنية لمكافحته و تقليص نسبة الإصابة به محليا.
وألحقت بالمركز وحدة متكاملة لأمراض القلب والشرايين موجودة ب"مستشفى الشيخ زايد" بمقاطعة دار النعيم، تتوفر اليوم على غرفة عمليات حديثة تجرى فيها كل أنواع عمليات القلب، ووحدة للقسطرة والفحوص المتخصصة، مع غرف للإنعاش و الحجز والاستشارات الطبية.
كانت المهمة شاقة وصعبة أمام طاقم المركز الوطني لأمراض القلب بقيادة مديره العام لبروفسور أحمد ولد أب أخصائي أمراض القلب والشرايين.
وبسرعة تم ترميم المقر، وإصلاحه وتوسعته، وبناء ملحقات جديدة من بينها أقسام ومبان إدارية، وممرات ومواقف للسيارات، و ورشات وملحقات مختلفة.
ثم كانت معركة التجهيز والتأثيث والتأهيل، فتم استجلاب التجهيزات الطبية بمختلف أنواعها، واستجلاب عشرات الأخصائيين والأطباء والتقنيين والممرضين وعمال الدعم.
واليوم فإن لدى المركزـ الذي لم يتجاوز عمره حدود الخمس سنوات ـ طاقما وطنيا نوعيا يشمل 17 أخصائي وجراح قلب وشرايين، و10 أطباء قلب "مقيمون" (تحت التدريب)، و4 أطباء عامين، و10 تقنيين صحيين، وطبيب مخدر،و37 ممرض دولة، و67 ممرض صحي، وأكثر من 40 عامل دعم، ومن المتوقع أن يتعزز هذا الطاقم بمجموعة أطباء وأخصائيين في طريقها لإكمال دراساتها في الخارج بحر السنتين القادمتين.
ويضم المركز أقساما للطوارئ، والحجز الطبي ( يتوفر على جناحين أحدهما للرجال والآخر للنساء ) وقسم إنعاش، ومخبر، وأشعة، وصيدلية، ومصلحة للشؤون الاجتماعية، ومغسلة، ومطعم داخلي، وقسم استشارات وفحوص خارجية، وغرفة عمليات متكاملة ووحدة قسطرة ( غرفة العمليات ووحدة القسطرة توجدان في الوحدة التابعة للمركز بمستشفى الشيخ زايد) ومواقف للسيارات،وفضاءات انتظار مظللة للمرضى ومرافقيهم، ويجرى بناء غرفة تبريد "بيت الرحمة" قريبا من مسجد المركز.
ولم تتوقف جهود طاقم المركز يوما واحدا في سبيل تطويره والرفع من مستوى خدماته و جاهزيته، وكللت تلك الجهود بالحصول على تمويل من "البنك الإسلامي للتنمية" لبناء مقر عصري مجهز وفق أحدث النظم الطبية والعمرانية في العالم، وهو المقر الذي تسهم الحكومة الموريتانية في تمويله، وقد منحته قطعة أرضية وانتقل من طور الإعداد والدراسات الفنية والهندسية والإنشائية إلى طور انطلاق أعمال التنفيذـ حيث وضع حجره الأساسي يوم 27 نوفمبر 2014 على أن تكتمل أعمال البناء في حدود 24 شهرا.
ويتم بناء المقر الجديد للمركزـ والذي من المتوقع أن يضم 100 سرير طبي، وأقساما طبية وإدارية وتجهيزات متكاملة لأنواع الفحوص ولوازم العمليات الجراحية والأدوية ذات الصلة بتخصص أمراض القلب والشرايين ـ بعد الكثير من الدراسات الفنية والمقاربات الهندسية والعمرانية والطبية التي نفذتها مكاتب خبرة واستشارات و دراسة عالمية متخصصة، وبمعرفة خبراء ومهندسين وأخصائيي إنشاءات طبية، راعت فيها آخر التصاميم المتعلقة بالمراكز الطبية المتخصصة عبر العالم، واستفادت من خبرات وتجارب عشرات المراكز والهيئات الطبية النظيرة في الكثير من دول العالم الشقيقة والصديقة، عبر زيارات ميدانية لتلك المراكز والهيئات الطبية، شملت الاطلاع على آخر تقنيات الهندسة العمرانية، والإنشاءات الطبية المتخصصة.
ولتشغيل المركز القادم بكفاءة واقتدار مهني وطبي، وضعت إدارة المركز بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية خطة تكوين مستمر لطواقم المركز شملت دورات وتكوينات وتدريبات، استفاد منها عشرات الأخصائيين والأطباء والفنيين والممرضين والإداريين، واحتضنتها مراكز ومستشفيات نظيرة في كل من المغرب وتونس وفرنسا وغيرها من دول العالم، ومكنت من تطوير مهارات العمال وتزويدهم بآخر ما هو متاح من معلومات طبية وإدارية ميدانية لازمة لتسيير منشأة طبية متخصصة بكل تلك الأهمية.
وبموازاة مع ذلك، وضعت الإدارة خطة أخرى للتكوين المحلي عبر دورات مكثفة لتدريب و تأطير العمال من طرف خبراء وطنيين وأجانب، تنظم داخل أقسام المركز ومصالحه المختلفة.
ولأن المركز من مهامه تحقيق اكتفاء ذاتي محلي في مجال التكفل بمرضى القلب والشرايين، والحد من بحث المرضى الموريتانيين عن العلاج خارج البلاد، فقد وسع دائرة التكوين والاكتتاب واستجلاب التجهيزات الضرورية.
وفى انتظار اكتمال أشغال مقره الجديد ، قام المركز ببناء شبكة علاقات عربية ودولية واسعة، مكنته من استقبال عشرات البعثات الطبية المتخصصة من المغرب، وتونس، وقطر، والسعودية، والإمارات العربية المتحدة،والجزائر،وتركيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرازيل، والمملكة المتحدة، وغيرها من دول العالم، وأجرت هذه البعثات مئات الاستشارات والعمليات والفحوص المتخصصة في القلب والشرايين، كما قدمت أدوية وتجهيزات للمركز، وساهمت في تكوين الطواقم الميدانية في مجالات الجراحة والتمريض والإنعاش والأشعة والإسعاف الأولي للقلب.
لقد كان الدرب طويلا وشائكا ،لكن إرادة طاقم المركز وتفهمه لجسامة المسؤولية ونبل الرسالة، وحماسه الوطني، ذللت صعوبات عديدة، وأعادت دائما قطار تطور المركز إلى سكته.
إن مشروع المركز الوطني لأمراض القلب مشروع وطني طبي رائد، أقامه هذا الجيل من الموريتانيين بصبر وشجاعة وقوة تحمل، ليكون صرحا طبيا وطنيا ستجد أجيال قادمة من الموريتانيين الفرصة لتقديره، واكتشاف أهميته، والعرفان بالجميل لكل الذين أخرجوه من منطقة الحلم والطموح، إلى أرض الواقع بالعمل الشاق والصبور، وبكل التضحيات الممكنة.
حبيب الله ولد أحمد