طالعتُ بيان النيابة العامة الذي أصدرته اليوم، وكان أول شيء خطر ببالي بعد مطالعة هذا البيان هو أن العرب قد قالوا قديما بأن شر البلية ما يضحك.
قرأتُ البيان الذي يبدو أنه قد أعد خارج أوقات الدوام الرسمي، وقد تم نشره في موقع الوكالة الموريتانية للأنباء على تمام الساعة الثالثة و42 دقيقة و48 ثانية من يوم الجمعة الموافق 18 ـ 08 ـ 2017، ويبدو أنه قد نشر على وجه الاستعجال!
للتذكير فإن البيان يتعلق بقضية اختطاف السيناتور محمد ولد غدة، وهي العملية التي كانت قد بدأت منذ مساء الخميس الموافق 10 ـ 08 ـ2017 في حدود الساعة العاشرة والنصف ليلا.
بعد ذلك بثلاثة أيام، وتحديدا في مساء الأحد الموافق 13 أغسطس 2017 أكد نقيب المحامين الأستاذ الشيخ ولد حندي خلال اتصال بوكالة الأخبار المستقلة بأنه تلقى طلبا من الملازم الذي أطلق النار على الرئيس الموريتاني في الحادثة المعروفة بحادثة اطويله، وذلك للتعهد في شكوى ضد السيناتور محمد ولد غده.
وأكد النقيب بأنه لم يقم بعد بأي تعهد، وأن الملف لم يصل بعد إلى النيابة.
في صبيحة اليوم الموالي (الاثنين 14 أغسطس) نظم أقارب السيناتور المختطف وبعض أنصاره وقفة احتجاجية أمام ممثلية الأمم المتحدة في نواكشوط، وذلك للمطالبة بكشف مكان اختطاف السيناتور. الوقفة تم تفريقها بالقوة، وتم التنكيل بعدد من النساء المشاركات فيها، وقد تم توثيق كل ذلك.
في يوم الأربعاء الموافق 16 أغسطس 2017 نظم النقيب السابق ومحامي السيناتور الأستاذ أحمد سالم ولد بوحبيني مؤتمرا صحفيا قال فيه بأن السلطات القضائية التي تواصل معها قالت له بأنه لا علم لها بمكان احتجاز موكله، وأكد النقيب خلال نفس المؤتمر بأن عائلة السيناتور المختطف لا تعلم أي شيء عن مكان اعتقال السيناتور المختطف.
بناءً على كل ما سبق فإنه يمكن القول بأنه ومن بعد مرور ستة أيام على اختطاف السيناتور ولد غدة فإنه لا القضاء ولا عائلة السيناتور كانوا يعرفون أي شيء عن مكان اعتقال السيناتور المختطف.
بعد المؤتمر الصحفي للنقيب السابق أحمد سالم ولد بوحبيني، وبعد ستة أيام من حملة تدوينية واسعة أطلقها المدونون تحت وسم #أين_السيناتور_ولد_غدة، بعد كل ذلك تم السماح لمحامي السيناتور محمد ولد غدة بلقاء السيناتور المختطف في مباني الغرفة المختلطة، وقد تم منع المحامي من حقه القانوني في الاختلاء بموكله مما جعل المحامي يرفض استكمال اللقاء في انتظار أن تتوفر الظروف القانونية المناسبة.
وفي وقت مبكر من يوم الجمعة الموافق 18 أغسطس نشر المحامي محمد المامي ولد مولاي أعل مقالا عدد فيه سبع خروقات ظاهرة وبينة في الملف، أعيد نشرها هنا مع شيء قليل من التصرف:
1 ـ خرق اللمادة 50 من الدستور المتعلقة بالحصانة البرلمانية، والتي وقع التوقيف في ظلها، ولا يقدح حسب المحامي إلغاء مجلس الشيوخ فيما بعد، إذ المعتبر هو الوضع الذي وقع الإجراء في ظله.
2 ـ خرق اللمادة 4 من القانون رقم 033/2015 المتعلق بمناهضة التعذيب، حيث تنص على أنه: ( بمجرد منع شخص من الحرية يجب تطبيق الضمانات الأساسية الخاصة التالية: - الحق بالإشعار الفوري لعضو من أسرته أو أي شخص يختاره باعتقاله ومكان هذا الاعتقال، والحق بناء على طلبه في كشف يقوم به طبيب فور حجزه أو توقيفه، وحق الولوج إلى محام عند بداية الحرمان من الحرية أو مساعدة شخص يختاره، وإمكانية الحصول بصفة سريعة على المساعدة القضائية، والحق في المثول فورا أمام قاض وبت محكمة في شرعية اعتقاله طبقا للقوانين المعمول بها، ...وتترتب عقوبات تأديبية ومتابعات جنائية في حالة عدم احترام هذه الضمانات).
3 ـ خرق المادة 13 من نفس القانون التي تجرم الاعتقال السري
4 ـ خرق الفقرة 5 من المادة 59 من قانون الإجراءات الجنائية التي تلزم بأن يكون الوضع تحت الحراسة النظرية تحت إشراف ومراقبة وكيل الجمهورية، في حين لم تكن النيابة العامة على علم بالاعتقال أصلا.
5 ـ خرق االمادة 1و2 من الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، حيث لم يفصح عن مكان احتجاز السيناتور لمدة 6 أيام.
6 ـ خرق الفقرة 2 من المادة 58 من قانون الإجراءات الجنائية الناصة على أنه: (يجب على ضابط الشرطة القضائية الذي يحتفظ بشخص قيد الحراسة النظرية أن يشعر في أقرب الآجال زوجه أو أحد أصوله أو فروعه من الدرجة الأولى بهذا الإجراء وبإمكانية الاتصال به من طرف زوجه أو أحد أقاربه المباشرين).
7 ـ خرق الفقرة الأخيرة من المادة 58 من قانون الإجراءات الجنائية التي توجب أن يكون اتصال المحامي بالموقوف في ظروف تضمن سرية اللقاء.
بعد كل هذه الخروقات البينة، وبعد مرور ثمانية أيام على اختطاف السيناتور أصدرت النيابة العامة ظهر الجمعة 18 أغسطس، بيانها المثير للضحك، والذي جاء فيه : "وفي إطار تلك التحقيقات تم حتى الآن توقيف المشتبه به محمد ولد أحمد ولد غده، طبقا لأحكام وترتيبات القوانين المعمول بها، وأتيح له اللقاء بمحاميه ضمانا لحقوق الدفاع." كما جاء في فقرة أخرى من البيان: "تؤكد ( أي النيابة العامة) أن ظروف توقيف كل من تشملهم هذه التحقيقات ستكون كما كانت دائما خاضعة لمقتضيات الشرعية التي تكفلها مقتضيات القوانين وتراقبها السلطة القضائية."
وقد جاء في الفقرة الأولى من البيان: "بعد التوصل بمعلومات موثقة عن قيام أشخاص متعددين بالتمالؤ والتخطيط لارتكاب جرائم فساد كبرى عابرة للحدود ومنافية للأخلاق والقيم السائدة في مجتمعنا، ضمن تشكيل منظم يهدف إلى زعزعة السلم العام، فتحت النيابة العامة تحقيقات ابتدائية معمقة وشاملة، تتعلق بتلك الجرائم".
ألا يثير مثل هذا البيان الضحك؟
ألا تذكركم تهمة التخطيط لارتكاب جرائم كبرى عابرة للحدود ومنافية للأخلاق والقيم بالتهم التي كان يسجن بسببها الأبرياء في عهد ولد الطايع؟
لقد عدنا إلى مسرحيات تلفيق وفبركة التهم، ولكننا عدنا إليها بطريقة أقل احترافية وأقل مهنية، كما عدنا إلى التزوير الذي كان يحدث في عهد ولد الطايع، ولكننا في استفتاء 5 أغسطس عدنا إليه بشكل أكثر ابتذالا وأقل احترافية.
إن بيان النيابة العامة المثير للضحك ما هو إلا عرض جديد من أعراض سكرات الموت التي يتخبط فيها النظام القائم. لقد فتح النظام القائم ملف التسريبات، ولقد كلفه ذلك الملف خسائر كبيرة، وها هو اليوم يقرر فتح ملف رصاصات أطويلة، ومن المؤكد بأن فتح ذلك الملف سيكلفه خسائر أكبر.
إن الأنظمة الحاكمة عندما تصل إلى مرحلة سكرات الموت، فإنها تتصرف دائما بتصرفات غير مفهومة، تضرها أكثر من أن تنفعها، وهو الشيء الذي يحصل تماما مع النظام الحالي. يبقى أن أقول بأن دخول النظام في سكرات الموت لا يعني بأنه قد يموت غدا أو بعد غد، فسكرات الموت بالنسبة للأنظمة الحاكمة قد تقصر، ولكنها قد تطول أيضا، وهي كلما طالت كلما انعكس ذلك سلبا على كيان الدولة وعلى تماسكها .
حفظ الله موريتانيا..