كان الحجاج بن يوسف ينتهج مع مناوئيه سياسة "الكيد والوقيعة"، فيعمد إلى أوهنهم قوة،وأخْوَرِهم عزيمة، فينقض عليه كالوحش الكاسر ليُظهر قوته وليُسري الوهن في نفوس الأقوياء فيردعون عنه.
وهي ذات السياسة التي تخضع لها شعوب العالم الثالث، إذ يبدو العسكر أشبه بـ"فُقاعة" منتفخة، لا نمتلك قدرة على رضِها كي تعود لحجمها، فقد شاخت الأفكار، وخارت القُوى، وتبلدت العزائم، وازدادت الخِشية من سماع صوت الفقاعة لحظة تفككها.
فعلا قد يكون الانفجار مزعجا في البداية، لكن لعلعة الرصاص قد تتحول من إثارة الفزع والرعب، إلى فعل فَرَحٍ لا يقاوَم، فسياقات الأحداث هي المُحدد الأبرز لقيمتها، لا الأحدث ذاتها.
لذلك أعتقد أن كثيرا مما يقترفه العسكريون بحقنا، من تجهيل للإنسان، ونهب للخيرات، وتحكٌم في المصائر، ما كان ليحدث لولا تلك النظرة "التخويفية" التي تُزرع فينا صغارا تُجاه هذه الثُلًة، فنتربى على "خوف أعمى"، يُفضي في النهاية إلى خنوع تام ، وكأن قدرنا أن نبتلع غصتنا أو نموت في صمت...!
منذ كنا صغارا حينما نتجاوز في حق الكبار، كانوا يهددوننا باللجوء للـ"صنادرة"، فهم الجهة المسيطرة على كل شيء ــ حتى في الخلافات داخل الأسرة ــ والخوف منهم ليس وليد اللحظة، وإنما متجذر في المخيال الشعبي، وحضوره في الثقافية التربوية والأخلاقية لم يكن إلا تجليا لطغيانه في مناحي الحياة الأخرى.
أكثر من ذلك أن عقلية المجتمع نفعية استغلالية، إذ ترى أُسَرَاً بأكملها تلقي أبنائها في أتون الجيش لا طمعا فيما يجنيه، بل لأن العسكرة مَكْمَنٌ للاحتماء يخول المتمترس به حق التعدي على الآخر، واختراق القانون، واستغلال المهنة لأغراض شخصية، دونما حسيب أورقيب
فالوحيد الذي يستطيع استقلال سيارة غير مجمركة، بلا رخصة سياقة في وضح النهار هو العسكري، وهو ذاته الذي يستطيع التملص من قبضة العدالة حينما يكون طرفا في جُنحة أخلاقية أو مالية، لأن القضاء ليس نشطا ولا مستقلا، عدا أنه عسكري الهوى والتوجه.
ولك أن تتصور أن عُمق المأساة نابعٌ من كون هذه الثٌـلة المتحكمة ـ حتى في الهواء ـ هي في الأصل شرذمة مختلطة، ما بين قاطع طريق، وسارق محترف، وقاتل نهِم، وشرٍيب مدمن، وأمٍي مغرور، وفاشل مهزوم، وهم في أعلى الهرم يُسدون النصائح، ويُؤَمٍنون الدولة، ويعطوننا دورسا في الوطنية والديمقراطية.
أَيٌ ديمقراطية هذه المنبعثة من ثنايا أحذية العسكر النتنة، لا من عقول المفكرين ومنظري علم السياسة ؟.
لكن السؤال التائه في حماقات العسكر منذ عقود، آن له أن يطفوَ على السطح مجددا، وبشكل أكثر إلحاحا هذه المرة.
ألم يأن لنا أن نؤسس لدولة يسودها الحق والقانون، ويجد الكل نفسه في حضنها وتحت ظلالها، ويكون مواطنوها كأسنان المُشط، محددي المهام والصلاحيات؟.
أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال مرهونة إلى حد كبير بإلجام "التغول العسكري" المستشري، وتقليم مخالبه الفتًاكة، حتى يتسنى لجسم ديمقراطيتنا الغض أن يتعافي، وعندها قد نخطو خطوات في درب ألف ميل.
قد يفهم البعض وجهة النظر هذه في سياقات كسر الجمود الراهنة، لكنها في الحقيقة مجردة دعوة لاقتسام المهام والتطلع بالأدوار، ولجم الشهية العسكرية التي تلتهم كل شيء، وتسيطر على كل الوظائف، حتى يُسهم الجميع في تشييد الصرح الحُلم، ويعرف كلٌ دوره ومهمته.
حينها قد سنحس بالطمأنينة والراحة، ونفهم أن"الوطن" أكبر من كلمة تلوكها ألسنتُنا بانتظام، كما يدوس العساكر أحلامنا الصغيرة كل يوم.