إن ذوي البقية من الموريتانيين و السنغاليين يعرفون تمام المعرفة العلاقات الثقافية و الوشائج الدينية و الروحية و الأواصر الاجتماعية الوطيدة التي كانت قائمة بين الشعبين الموريتاني و السنغالي ، لأحقاب طويلة من الزمن، قبل الغزو الاستعماري الفرنسي للبلدين في نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين. وقد عمل المستعمر الفرنسي بكل الوسائل المتاحة له أن يقلص انتشار الثقافة العربية الإسلامية وأن يحد ما وسعه ذلك من الإشعاع الفكري للموريتانيين في الغرب الإفريقي بوجه عام ، و في السنغال على وجه الخصوص.و كما استعمل المستعمر الفرنسي « الرماة السنغاليين" Les tirailleurs Sénégalais
في بسط سيطرته العسكرية على المنطقة، فقد توسل رماة سنغاليين جدد
Les néo-tirailleurs sénégalais- ـ من أجل اجتثاث الثقافة العربية و إبدالها بالثقافة الفرانكفونية ، بما يعنيه ذلك بالنسبة للسنغاليين ، من استلاب فكري و تغريب ثقافي وولاء سياسي وانكسار نفسي و تبعية اجتماعية ، مفضية إلى تفريط مشين في الهوية و طمس مزر للذاتية و تمييع مهين للخصوصية. و رغم أن السلطات الاستعمارية الفرنسية قد أفلحت في خلق طبقة محلية طيعة تمثل ، إن صح التعبير , الوجه الأسود لفرنسا في السنغال ، تتماها مع الثقافة الفرنسية وتتشبث بكل قواها بفرنسا وتكن بالمقابل العداء للثقافة العربية الإسلامية و تعمل جاهدة على اجتثاث شقفتها من السنغال. إلا أن السواد الأعظم من الشعب السنغالي ظل يعض بالنواجذ على الثقافة العربية الإسلامية و يتمسك بالقيم الاجتماعية و الدينية و الروحية و يحرص على استمرار الوشائج الاجتماعية و أواصر الرحم و حسن الجوار، ما جعل الشعبين متداخلين و متماسكين اجتماعيا وعقديا و سلوكيا.
و رغم أن هذه الوضعية يفترض أن لا تغيب عن ذهن و تفكير كل شخص يتوفر على حد أدنى من الحصافة و التبصر و بعد النظر، سيما إذا كان له طموح سياسي و تطلع إلى الزعامة و الريادة في هذا البلد، فإن بعض الساسة السنغاليين من ذوي الارتباط الثقافي و التماهي الوجداني و الولاء السياسي مع الجهات الفرنسية الحاملة للواء الفرانكفونية ، قد عمدوا على نحو متكرر وبإيعاز من الدوائر الرسمية الفرنسية ، إلى اختلاق أزمات سياسية و اقتصادية و اجتماعية بين الشعبين الشقيقين الموريتاني و السنغالي. ولعل أخر هذه الأزمات و أشدها عنفا و دموية هي أزمة 1989 التي أشعلتها أوساط عنصرية متطرفة حاقدة على كل ما يمت إلى العرب و الإسلام بصلة.
و كان مهندس هذه الأزمة و عرابها هو الفرنسي جان كولان Jean Colin الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية السنغالي يومئذ. وذلك بالتنسيق مع الأوساط الكنسية و الماسونية و الصهيونية و غلاة الإسلاموفوبيا في أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية . وقد جندت هذه القوى الهدامة عنصريين زنوجا ينتمي جلهم إلى حركة "فلام" الموغلة في العنصرية العمياء الحاقدة حقدا لا نظير له على البيظان من حيث هم بيظان، وعلى كل العرب بوجه عام.
ونظرا لفداحة الخسائر البشرية و المادية التي لحقت بالموريتانيين و ممتلكاتهم جراء الهجمة الشرسة و الأعمال الوحشية التي استهدفت الموريتانيين المقيمين في السنغال و السنغاليين من أصول موريتانية على حد سواء. نظرا لحجم الكارثة، فقد صدرت عن السلطات الموريتانية التي كانت قائمة إذ ذاك، ردة فعل ربما غير مدروسة بما فيه الكفاية، تم من جرائها إحراق الخضرة باليابسة كما يقال. إلا أن المسؤولية في تفجير هذه الأزمة المبيتة و المخطط لها سلفا ترجع في التحليل النهائي إلى النظام القائم في السنغال يومئذ و الدوائر الدولية ذات الأجندات الخاصة الداعمة له و المجموعات العنصرية الزنجية التي تم تجنيدها لتقتيل الموريتانيين و انتهاك أعراضهم و نهب أموالهم وممتلكاتهم.
ولولى أن بعض الحكماء و أولي النهى في البلدين سعوا جاهدين إلى احتواء الكارثة و الحد من تفاقمها لتسببت في حرب ضروس لا تبقي و لا تذر، تلحق أضرارا ماحقة بالشعبين ،لا تندمل جراحها ولا تزول أثارها لردح طويل من الزمن , ولكن الله سلم.
و اليوم هاهو وريث العنصريين "الفلاميين" و شريك المتطرفين الغلاة و عراب الدوائر الفرانكفونية المتخندقة المدعو ماكي صال يحول عاصمة بلاده إلى محجة لكل شذاذ الآفاق العنصريين من سنغاليين وأمريكيين و غيرهم من الذين تمتلئ قلوبهم غلا و ضغينة وحقدا على العرب سواء كانوا موريتانيين أو غير موريتانيين، و الذين وضعواا نصب أعينهم تمزيق مكونات الشعوب العربية و بث الفرقة و العداء بينها وصولا إلى إقامة دويلات هشة داخلها يسهل التحكم فيها و تسخيرها لمصالح الدول المتنفذة. وما قيام دويلة صورية غير قابلة للحياة بإقليم كردستان عنا ببعيد.
ولكن يجب على ماكي صال أن يفهم أنه إذا كان قد وضع رأسه على سندان الأزمة الاقتصادية التي تعصف ببلاده جراء فساده و سوء تدبيره ، فإن في يد موريتانيا مطرقة شديدة الصلابة عليه أن يتفادى وقوعها على رأسه. و من منطلق أن "الحديد بالحديد يفلح" فعلى ماكي صال كذلك أن يدرك أن بمقدور موريتانيا أن تضافر جهودها مع جهود القوى الخيرة السنغالية المحبة للسلام و الواعية لعمق و محورية العلاقات الموريتانية السنغالية و الأهمية الحيوية للمصالح المشتركة بينهما قصد تقويم الأوضاع بالسنغال. كما أنه لا يعجز موريتانيا إن هي أرادت ذلك ، تأليب جزء كبير من البطانة المحيطة بماكي صال نفسه ضد السياسات المتهورة التي ينتهجها. و قديما قيل
" إن لكل شيء آفة من جنسه ، حتى الحديد ابتلي بالمبرد." ولا شك أن ماكي صال يعرف هذا جيدا.
د.محمد الامين ولد الكتاب