غالبا ما تكون الرواية الأولى، هي بمثابة سيرة ذاتية لمؤلفها، أو تشتبك معه بالضرورة، لماذا؟ لان داخل كل منا حكاية، سواء أكان الراوي كاتبا أم شخصا عاديا يسرد تفاصيل ما بجعبته للناس، ويحكيها شفاهة، والروائي أيضا هو شخص يرتفع عن الواقع قليلا ويصوغ حكايته بأسلوب فني يمثل المتخيل والواقعي معامن هنا نستطيع القول: بأن الروائية الفلسطينية نوال حلاوة، المقيمة في مونتريال كندا، جاءت روايتها (الست زبيدة) ما بين اغترابين، الاغتراب الأول وهو لحظة خروجها بفعل نكبة فلسطين، والاغتراب الثاني هو اقامتها وتنقلها في بلاد كثيرة، مما أسس لديها هاجساً قوياً لتكتب يافا والقرى المحيطة بها والبحر الذي أحبته كثيراً ولم تستطع الابتعاد عنه حتى في المتخيل.
ترى لماذا اختارت نوال ذلك العنوان المؤلف من اسم مركب (الست زبيدة) هل لذلك الاسم دلالة ما؟ وهل جاء اختيار الكاتبة لتبعث رسالة مشفرة للقارئ وتجعله في حيرة من أمره عن جدوى ذلك الاسم؟ هل ستضعه أمام أسئلة كثيرة، قبل الولوج لعالم الرواية وقراءتها بأنه أمام رواية تاريخية مثلاً؟ أسئلة كثيرة تكونت حول هذا العنوان، ولماذا هذا الاسم تحديداً، من المتعارف عليه _ نقدياً _ بأن العنوان هو عتبة النص، أو هو المفتاح الذي سيفتح تلك الأبواب المغلقة، إذن النص مغلق والمفتاح هو العنوان وبدونه لن يستطيع القارئ تكوين تلك الفكرة عن ما هيئة النص، لنتخيل أننا أمام نص إبداعي دون عنوان، ستكون النتيجة مرتبكة من قارئ لآخر حول فهمه للنص، إذن لا بد لنا من العودة قليلاً للتاريخ.
السيدة زبيدة، ابنة عم الخليفة العباسي هارون الرشيد وزوجته، الذي ملأ الدنيا بالتنوير والعلم والأدب والفن والموسيقى، هي ابنة خليفة أيضاً، كانت على قدرٍ كبير من الجمال والذكاء ويقال بأنها كانت شاعرة وناقدة أيضاً حيث كانت تعرف الشعر الضعيف من الشعر الجيد، عاشت في قصور ابيها وزوجها كأميرة عباسية ترى لماذا عدت الان _ بموجز بسيط _ لسيرة تلك الأميرة؟ هل هو العنوان الذي دفعني للمقاربة بين السيدة زبيدة الأميرة والست زبيدة اللاجئة في رواية نوال حلاوة؟ نعم هو ذلك، تريد نوال هنا أن تجذب القارئ بمكر روائي وتوصل له فكرتها الاولى بان اللاجئة هي أيضاً كانت أميرة في يافا، مقابل البحر والتعليم وعراقة تلك المدينة وقراها وطريقة معيشتها بكامل تفاصيلها، لذلك لم يأتِ العنوان عبثاً وإنما كما أشرت سابقاً بأنه ذات دلالة مهمة. تعددت الأصوات الروائية كثيراً، الأب الذي عمل بائعا متجولا في طفولته للكعك للمصلين في المسجد، حيث كانت والدته بعد فقد زوجها تصنعه، وذلك اتقاء لذل الحاجة، سيرته التي حكاها هو شخصيا ولم تقم الراوية الأساسية الست زبيدة بالحديث نيابة عنه، بل حكاها بتفاصيل دقيقة، منذ حلمه الأول بالسيدة زبيدة وتسميته ابنته على اسمها في ذات الليلة التي ولدت بها، حبه الشديد لابنته الصغيرة وتدليلها والتفاؤل بها في تجارته اللاحقة التي كبرت، صوت الأم الذي جاء على استحياء منذ زواجها وهي ما تزال على أبواب الطفولة، العمة التي فقدت ابنها ذات حادث مؤسف وهو يركب الخيل وظلت تلك المأساة تلاحقها حتى عند وفاتها، تدفقت أصوات الشخصيات كثيرا لتحكي ذاتها وتلتقي بالنهاية مع الراوية الرئيسية حيث بقيت خيوط الشخصيات بيدها ولم تفلت منها الحكاية الرئيسة، وهذا يسجل للروائية بأنها حافظت على جوهر الحكاية الأولى (اللجوء) رغم تعدد الحكايات ولكن بقيت ضمن سياق واحد
يافا، الهاجس الأول، اللحن الحزين في الرواية، هنا يتبادر السؤال الكبير، هل كتبت نوال كل تلك التفاصيل الدقيقة، مدرستها الابتدائية، معلماتها، حياتهن، واجباتها المدرسية، حقيبتها، دفاترها وأقلام الرصاص، فقط لتكتب سيرة ذاتية؟ وهل تدفقت كل تلك الذاكرة المشحونة بالأسى حين كانت تذكر البحر الذي تعشقه ومحاولاتها الاولى للغوص في مياهه والسير على الشاطئ ومشاهدة مراكب الصيد الغافية على رماله، أو المبحرة في وسطه؟ هل ذكرت مواسم رمضان والعيد وأصناف الطعام والحلويات المختلفة بكل تلك الدقة، من طريقة عجين الكعك مثلا الى نضوجه وكيف كانت الجارات تتعاون مع بعضها لانجازه بطريقة احتفالية، ملابس العيد أيضاً واختيارها للألوان التي تحبها؟ وصف شوارع يافا وأحيائها وأسماء عائلاتها الحقيقية بدون رمز أو تورية. هل جاء كل ذلك فقط لتوثق سيرة مدينة؟، لو فعلت نوال ذلك للتوثيق فسنحكم على روايتها انها سيرة ذاتية فقط أو مذكرات لا ترقى للصنف الروائي، لكنها فعلت العكس، أبقت كل تلك الحكايات الواقعية ومزجتها _ كما قلت سابقا _ بشيء من الجمال الفني والمتخيل لتحقيق هدف واحد فقط لا ثاني له، وكأنها تريد أن توصل للقارئ ما مفاده بأني انا اللاجئة وهذه قصة مدينتي المسروقة.
أحمد علي الغماز ناقد وروائي