لعلها المرة الأولى منذ إعلان «الجمهورية الإسلامية» في إيران عام 1979، التي يرفع فيها المحتجون صورة «رضا شاه» مؤسس إيران الحديثة الذي عرف بنهجه العلماني وصراعه مع المؤسسة الدينية وولائه للغرب. ومع أن مطالب المتظاهرين تركزت حول الملفات الاجتماعية والمطالب المعيشية، فإن الانتفاضة الراهنة التي تعرفها المدن والقرى الإيرانية هي في عمقها ثورة عميقة ضد النظام السياسي والمجتمعي الذي بلورته التجربة الخمينية منذ قرابة أربعين سنة.
الفرق الجوهري بين «الثورة الخضراء» التي اندلعت عام 2009 والانتفاضة الحالية، هو أنها ليست أزمة ظرفية ترتبط بالحدث الانتخابي والاستحقاقات السياسية التي تمحورت حول الصراع بين الاتجاهين «المحافظ» و«الإصلاحي» اللذين يصدران عن نفس المرجعية على الرغم من اختلافهما في الخطاب والاستراتيجيات. ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن نظام «ولاية الفقيه» الذي كرسته التجربة الخمينية بعد سقوط الشاه كان نتيجة صراع حاد على الشرعية والمرجعية بين الأجنحة التي شاركت في الثورة وأهمها ثلاثة: التيار الليبرالي الذي تولى تسيير المرحلة الانتقالية (مهدي بازركان وبني صدر)، والاتجاه اليساري (تودة ومجاهدي خلق)، الذي تمت تصفيته بالعنف والحوزة العلمية الدينية التقليدية التي رفضت زعامتها منظور الإسلام السياسي (اتجاه منتظري).
ومع بداية التسعينيات إثر رحيل الخميني ونهاية الحرب الطويلة مع العراق، تركز الصراع السياسي في الحقل الديني ذاته الذي أصبح مرتكز الحراك المجتمعي، بحيث إن استراتيجية «أسلمة» المجال العمومي، بدلاً من أن تفضي إلى قولبة المجتمع بصيغة شمولية أحادية، أفضت إلى تحويل الرهانات الاجتماعية المختلفة إلى المجال الديني. وكما بينت الباحثة الإنثربولوجية الإيرانية «فريبا عبد الخالق» سعى نظام ولاية الفقيه إلى إضفاء السمات النفعية والبيروقراطية والعقلانية على الحقل الديني من أجل إحكام السيطرة عليه ومن خلاله الهيمنة على المجتمع، فكانت النتيجة عكسية بالنظر إلى أن هذه المقاربة ألغت عنه طابعه المقدس المتعالي، وجعلت منه رأسمالاً رمزياً يوظف في الصراعات السياسية والطبقية. ومن هنا ندرك كيف أن معارضة النظام السياسي تمت من داخل المشروعية الدينية ببروز تيار احتجاجي واسع ينطلق من فكرة «المجتمع المدني الإسلامي» في مقابل الدولة التسلطية القمعية.
منذ منتصف التسعينيات بدا من الجلي أن الحركية الثورية قد انحسر كامل زخمها في الشارع الإيراني، وظهر اتجاه متنامٍ داخل مركز القرار نفسه يتبنى الخط الواقعي البراجماتي للتكيف مع ضغوط الحالة الداخلية ومعطيات الوضع الدولي، إنه الاتجاه الذي مثله الرئيس الأسبق «هاشمي رفسنجاني»، ويمثله اليوم الرئيس الحالي «روحاني». لا يتعلق الأمر بمسلك إصلاحي حقيقي (على غرار القوس الخاتمي القصير)، بل بتيار يدعو إلى التأليف بين الثوابت القومية الكبرى التي قامت عليها إيران الحديثة (الدولة المركزية والهوية الفارسية والدور الإقليمي المستند للعامل الطائفي) والنموذج «الجمهوري الإسلامي».
في هذا السياق يندرج الحماس الذي تم به انتخاب روحاني عام 2013 والتجديد له في السنة الماضية توقعاً لمكاسب إيجابية على الصعيد المعيشي بالخروج من أزمة اجتماعية خانقة متفاقمة.
بيد أن سياسات الانفتاح الداخلي والخارجي المحدودة التي تبناها روحاني فشلت في إحداث التحول المنشود، وبدا من الواضح أن تركيبة النظام السياسي عصية على الإصلاح والتغيير، نتيجة لعائقين جوهريين هما: ازدواجية النظام السياسي نفسه بين سلطة «المرشد» المطلقة وهامش الحكم الضئيل المتاح للرئيس المنتخب، والانفصام المتزايد بين الدولة والمجتمع الأهلي، الذي لم يعد للتيار الإصلاحي تأثير كبير عليه.
العامل الأول يتجلى عملياً في تضخم الجهاز المؤسسي التابع لـ«الولي الفقيه» من حيث كونه يشمل الذراع العسكرية الأقوى للدولة (الحرس الثوري) والجمعيات الدينية التي تسيطر على نصف اقتصاد البلد والإعلام العمومي، في الوقت الذي يتراجع أداء وفاعلية الجهاز الحكومي الإداري العاجز عن حل المشاكل المجتمعية المتفاقمة ومحاربة الفساد المستشري على نطاق واسع في الدولة.
أما العامل الثاني، فيتجلى في ما عبر عنه عالم الاجتماع «فرهاد خسروخافار» بالقطيعة بين «الدولة الإسلامية»، أي النظام الحاكم باسم الشرعية الدينية و«المجتمع ما بعد الإسلاموي»، الذي تحركه قيم الفردية والاستقلالية والاستهلاك الاستمتاعي بدل قيم التقشف الثوري والإيثار والتضحية التي بنى عليها النظام السياسي استراتيجيته التعبوية في سنوات الثورة الأولى، وفي مرحلة حروبه الإقليمية الطويلة التي تستمر حالياً في مغامراته الجنونية في البلدان العربية.
ليس من المرجح أن تُفضي الاحتجاجات التالية إلى القضاء على النظام السياسي في إيران، لكنّها تعبر دون شك عن لحظة تصدع عنيف في بنياته ومرتكزاته القائمة.