على ناصية الطريق وقبالة الشمس والدخان، كان هنالك رجل بشفتين شاحبتين وملامح رثة؛ يفرك بأصابعه حزمة نقدية من العملة الصعبة(الأوقية)، ويسأل المارة بإلحاح متصاعد إن كانت بحوزتهم عملة صعبة أو سهلة يودون تبديلها. تمعر وجه رفيقي الجالس خلف مقود سيارة من نوع تويوتا أفانسيس من المشهد، رفيقي المتشنج أصلا من تداخل السيارات وصفيرها المزعج؛ ومن تلك الحفر العميقة على الطريق وهي تخدش أقدام وأمعاء سيارته المدللة. علق رفيقي على المشهد قائلا: (( إنها وظيفة بئيسة وتفوح منها رائحة المسكنة، أفضل تصحر الجيوب على مزاولتها بهذه الطريقة المبتذلة..)).
وأنا أحاول جاهدا تقمص دور المواطن المثالي، قلت له بلكنة متثاقلة: (( بأن العمل كله شرف ))، هكذا علمونا ونحن في الابتدائية، عندما كنا نأكل حلوى أصبع معاوية ومص وأرقص بكل براءة، سأظل اذكر دائما عنواين تلك النصوص المضمخة بالعرق والشرف: " العامل المكدود والبستاني الذي يعمل في انشراح دائم ". إن وقفة ذلك الرجل تحت الشمس؛ أفضل بكثير من التسول السطحي والتسول العميق، ومن السرقة الصغرى والكبرى، ومن جني الأموال من منابع قذرة أو بطرق ملتوية...
في الحديث النبوي الشريف: ((لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ أحبلهُ, ثم يأتي الجبل, فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ من حَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ, فَيَبِيعَهَا, فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَه, خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ, أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ))...
ثلث السعادة في وجود المال، ومن أخبركم بأن السعادة لا علاقة لها بالمال فهو ببساطة لا يعيل أحدا، وربما لا يعيل نفسه حتى، المال لا ينبت من الأماني، فمن أراد جنيه فعليه أن يبذل لذلك مجهودا حلالا وشفافا ويتملص من الكسل والأحلام البنفسجية، ببساطة شديدة عليه أن يعمل، وهناك طرق بسيطة وواضحة جدا لجني المال!
الطريقة الأولى:
أن تستيقظ صباحا وتذهب إلى عمل شريف، إن لم تعثر على عمل شريف؛ تصبر، وكرر المحاولة دائما وأياك أن تنام الصبيحة حتى لا تفوت الفطور. لا أنصحك بمحاولة الهجرة، مع أن الهجرة تنشط الدورة الدموية وتذيب كل شحوم الانتظار المكدسة حول القلب وتجعل العقل أكثر اتساعا ونضجا، بيد أنها تأكل سنوات العمر، يمكنك أيضا التنقيب عن الذهب في القفار، ربما تكون محظوظا جدا وتعثر على كيلوغرامات من الذهب، تفتح بها مشروعا مدرا للأرباح تعيش فيه مع عائلتك بكل سلام. أو قف لك عند المنعرج الفاصل بين البنك المركزي والقصر، وذلك من أجل الضغط على هذه الحكومة الخاملة؛ بغية توفير فرص عمل للعاطلين عن العمل، فهذه مسؤوليتها.
الطريقة الثانية:
أن تتزود برصيد جد معتبر، وتشارك في مسابقة الحلم على قناة MBC التي يقدمها مصطفى الآغا، قد تكون محظوظا وتفوز بالجائزة الكبرى..
غير ذلك؛ يقال له تبييض الرزق وغسيل الأموال.
طبعا في أيامنا هذه، هناك علاقة تناسبية ما بين مساحة جيوبنا ومساحة حضورنا في دائرة اهتمام الناس. عندما تكون جيوبك ضيقة للغاية؛ وبغض النظر عن تصبب عرق العمل الشريف من جبينك، قليلون؛ هم الذين سينظرون إليك بشرف واحترام...
نحن لا ننظر لبائعة الكسكس باحترام، وهي تقاوم البرد والغبار على الأرصفة لتعيل أطفالها بصمت، بينما نوزع الابتسامات الميكانيكية بسخاء كامل على تجار البضائع المزورة والساسة الفاسدين وأصحاب الأمجاد الغامضة.
بكل صراحة؛ هناك فائض من غبار المظالم داخل الدولة العميقة أصبح لا يطاق، كأفراد؛ أما أن نتصدى له بحزم أو ننغمس فيه بقوة، فلا توجد منطقة وسطى بين الجنة والنار مخصصة للمحايدين مثلا.
المواطنون البسطاء يعملون بمشقة وشرف من أجل أن يعيشوا بسلام، لكن الأسعار ارتفعت وتكاثرت الضرائب عليهم، صديقي وهو رب أسرة أخبرني بإن الماكرونا قد ارتفع سعرها. صديقي الآخر عندما حلق ذقنه، قال لي بأن لسنتات أيضا ارتفع سعرها. كل شيء ارتفع؛ حتى أسعار لسنتات..
شرح المفردات:
تمعر وجهه: تغير لونه.
أصبع معاوية: نوع من الحلوى سمي على معاوية، لكن معاوية رحل ويعيش الآن في دولة قطر رغم أن الشعب قاله له ذات يوم؛ بأنه لن يتخلى عنه.
مص وأرقص: حلوى أيضا.
التسول السطحي: ذلك الذي يحدث على الطرقات.
التسول العميق: ذلك الذي يحدث في أروقة الدولة.
السرقة الصغرى: كالنشل وسرقة الأحذية والهواتف.
السرقة الكبرى: أكل المال العام وسرقة الصفقات.
الأمجاد الغامضة: الأمجاد التي لم تبرهن علميا.
لسنتات: شيفرات حلاقة رخيصة ورقيقة.
هنا نواكشوط. ووجوه الناس في الشوارع ليست لامعة كأنهم أضاعوا السعادة، ابتسموا يرحمكم الله، إن الحياة جميلة ولم تنته بعد، والأسعار سوف تنخفض.
الصورة المرفقة؛ لقطة جذابة جدا من العاصمة التقطتها من منطقة مدريد؛ حيث كان الدخان يتصاعد من القمامة المحترقة قرب بيوت الناس لتصيبهم بالربو والحساسية المفرطة، ومعظمهم ربما لا يمتلك تأمينا صحيا.
الساعة 16:12 والكهرباء كانت مقطوعة وعادت. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
من صفحة المدو الكبير الأستاذ خالد ولد الفاظل على الفيس بوك