كانت تتسلق سني مراهقتها في حيوية وطيش، ذاب قلبها الغض على وقع نظرات مبهمة يغمرها بها ابن الجيران كلما صادفته في الطريق أو لدى المحل المجاور.. تمنت مرارا أن تشفع تلك النظرات بكلمة أو كلمات لكن الأمنية كانت تختنق كلما فكرت كيف سيكون الرد من طرفها وكيف سيستقبل ذلك الرد.. تسأل عنه صديقها صاحب المحل ثم تعيد السؤال كأنما نسيت.. يرد أحيانا مرفقا إجابته بابتسامة ساخرة، تقابلها هي بتصنع للغضب ما يلبث أن يترضاها عنه.
الشاب ابن الجيران ممشوق القامة أنيق الملبس والأهم كونه "صقيل القدمين"، كان حالة تطاردها يقظة ومناما. أصبحت تهتم لكل جزئيات المظهر، حتى طريقتها في المشي والحديث تغيرت.
كثيرا ما اختلقت الأسباب للخروج، فقط لتلمحه، أو لعل الحظ يبتسم ويرسل الفتى تلك النظرة، مرفقة بنفثة دخان من سيجارة تسلم أنامله طرفها لشفتيه لحظات، كم تستثير تلك الحركة كوامن الشغف والغيرة في نفسها!
لم تعرف ما جرى، ولم تفهم كيف أصبحت حياتها بالكامل تدور حول ذلك الشاب.. كيف تحول تفكيرها إلى "فيديو كليب" يجسد أغاني إيهاب ومحمد فؤاد ونوال ونجوى كرم ووائل.. شعور غامض ينهب بعنفوان كل ذرة فيها.
من خلف "الكنتوار" امتدت يد صاحب الدكان ذات صباح لتسلمها بعض المشتريات، لمحت بين الأشياء داخل الكيس البلاستيكي مستطيلا ورقيا أبيض بإطار مخطط، رد البائع _استباقيا_ على استفهام توقعه منها "رسالة تركها لك فلان".. أحست بقشعريرة تجتاح كامل جسدها.. اعترضت غصة مجرى النفس لديها، غادرت المحل بسرعة خاطفة بعد أن أخفت الظرف و لم تعرف كيف قطعت المسافة نحو المنزل.
انتبذت ركن إحدى الغرف، فضت الظرف وهي تتساءل "هل هي الحقيقة أم أن ما يجري امتداد لحلم البارحة؟" بعدما قرأت بترو اسمه واسمها "من... إلى..." ، غابت عن ما حولها في أصداء احتفال صاخب تجري مراسيمه في شغاف بكر.
"حبيبتي" ... هدت المفردة المكتوبة بأناقة أسوار مقاومتها، كانت تود لو قرأت الرسالة ببطء، بل على جرعات.. لكنها التهمتها بسرعة وعادت لتأمل الظرف مجددا ولقراءة اسمه واسمها.. لم تنتبه من قبل إلى كون اسمها جذابا.. رددته، قبل أن تنتبه لنداء أحدهم يريد ابتعاثها لمهمة.
فور خروجها صادفته.. لم تستطع _ هذه المرة_ أن تنظر إليه، لم تعرف لون نظرته ولم تنتظر نفثة دخانه، أسرعت بخطاها مطرقة تحاول السيطرة على قلب يجنح للتحليق بعيدا.
صباح الغد، كانت بانتظارها رسالة أخرى لدى صاحب المحل، استلمتها بيد مرتجفة، وفي نفس الركن من نفس الغرفة قرأتها ثم أخفتها.. بدأ الخوف داخلها ينحسر مفسحا للفرح مساحة أكبر.
اعتادت لأيام استلام الرسائل فقراءتها ثم إخفاءها، صار الأمر طقسا يوميا تستودعه أعذب وأجمل اللحظات.
لكن.. هناك في الشارع، ولدى المحل أيضا، لا شيئ طرأ، لا كلمة، أما النظرات فما عاد بإمكانها أن تبحث عنها وتستفسر عن معانيها.
كانت في طريقها من الثانوية ذات ضحى حين لمحته، هو بعينه، والسيجارة بيمناه.. كان مبتسما، قفز قلبها، ثم _وهي تقترب_ شاهدت كيف أن نظراته كانت تلتهم فتاة على مقربة منه بدا أن حديثها يستغرقه بشكل كامل.. انتفضت كل مشاعرها، وفي عاصفة غضب قررت اقتحام المشهد.. ثم .. أحجمت دونه بأمتار قليلة.
عادت إلى مسارها محطمة، يضج قلبها الصغير حزنا، بل ألما.
مرت أيام لم تغادر فيها المنزل إلا إلى الثانوية، لم تعد تتعلل للذهاب إلى الدكان.. استحالت كل تلك الحيوية ذبولا وكأن كل شيئ فقد نكهته على حين غفلة.. ثم قررت أن تكتب كل حزنها كل غضبها، أن تستودع حطامها رسالة تتركها ل"الحبيب الخائن" عند صاحب المحل.
سودت أوراقا عدة قبل أن تستقر على إحداها، ثم بخطى مرتبكة سارت نحو "صندوق البريد" وقفت عند إحدى البوابات، تأكدت أنه لا أحد هناك باستثناء البائع، رمت الظرف المختوم باتجاهه، وأسرعت عائدة.
صوب المنزل، كانت قادمة من الثانوية، قبل أن يستوقفها صاحب المحل، لم تعرف سر الحزن الذي تدفق من عينيه وهو يسلمها ظرفا تمنعت قبل أن يلح عليها في أخذه.
لم تستعجل _عكس عادتها_ قراءة الرسالة، كانت تخشى ما ستكشف عنه المفردات المختبئة بين طيات الورقة، دستها في الجيب الخلفي للحقيبة "التلاميذية"..
بعد تردد أخذت خلاله قسط راحة استخرجت الرسالة، هذه المرة لم يحمل الظرف اسميهما. كان البياض داخل الإطار صافيا.. ناصعا.
فكت الظرف واخرجت الورقة لتجد نفسها أمام جمل مختصرة "هل تقبلين اعتذاري؟ أنا من كان يكتب لك.. كنت تبحثين عن حبيبك وكنت أطارد حبيبتي.. لن تصلك رسائلي مجددا مثلما أنها لم تصلك أبدا.. لكني لن أنساك .. إمضاء....".
رفعت عينيها ومزيج غامض من المشاعر يسيطر عليها.. قاومت خدرا يقيد ساقيها ثم تعللت للخروج .. وصلت إلى الدكان .. رد عليها عامل جديد "فلان سافر.. لقد تأخر أسبوعين عن جامعته في انتظار وصولي" .. عادت أدراجها بعد أن أدركت سر الحزن الذي رأت على محيا "صديقها".
عادت للرسائل.. تعيد قراءتها .. تعيد فهمها وتستعيد تركيب الأحداث.
بلقيس بنت اسماعيل