بين التناقضات ومظاهر القطيعة.. ملامح السياسة الإفريقية للرئيس الفرنسي الراحل ديستان

جمعة, 2020-12-11 13:43

ترجمات "الشروق ميديا" | ترك الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، الذي وافته المنية مؤخراً عن 94 عامًا (02/12/2020)، بصماته على تاريخ العلاقات الفرنسية الأفريقية، فقد تولى منصبه في عام 1974 واعدًا بإعطاء دفعة جديدة لسياسة فرنسا في أفريقيا، ولكن تحت وطأة القضايا والتسريبات المحرجة حول مقايضاته وصفقاته، شهد الرجل انخفاضاً لشعبيته في إفريقيا خلال فترة ولايته التي استمرت سبع سنوات. وهذه عودة إلى ملامح مسيرة جيسكار "الإفريقي" التي ميزها العديد من التناقضات ومظاهر القطيعة.

ما زال العديد من الفرنسيين الذين كانوا في سن الاقتراع عام 1981 يتذكرون الحملة الرئاسية التي تنافس فيها فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران في ذلك العام، والدور الوحشي الذي مارسه من كانوا يعلقون سراً الملصقات المناهضة للرئيس المنتهية ولايته، والمرشح لخلافة نفسه. في بعض ملصقات المرشح الرئيس، استبدلوا بالعينين فراشتين ساطعتين تعكسان ليلاً أضواء مصابيح السيارات. ولقد كان ذلك بالطبع إشارة، إبداعية وماكرة في الوقت نفسه، إلى فضيحة لوحة الألماس البالغة قيمتها مليون فرنك (من 650,000 إلى 700,000 يورو) التي تلقاها ديستان هدية من رئيس وسط إفريقيا جان بيديل بوكاسا. لقد سممت هذه القضية السنوات الأخيرة من ولاية جيسكار التي استمرت سبع سنوات. وأخذ الملصق نكهته الكاملة من التذكير بشعار الحملة الرئاسية السابقة لجيسكار نفسه، الذي كان يؤكد أنه "ينظر إلى فرنسا في أعماق عينيها". أو بالأحرى "في أعماق مناجم الماس في بانغي"، كما كان يقول الثرثارون.

ومهما يكن، فقد خسر فاليري جيسكار ديستان الاقتراع أمام خصمه الاشتراكي. وبالنسبة للمحللين، لا يوجد أدنى شك في أن "قضية الألماس"، التي ألقت بالشبهات على السياسة الجيسكاردية برمتها في إفريقيا، أثرت بطريقة حاسمة على المصير السياسي لثالث رؤساء الجمهورية الفرنسية الخامسة. ويؤكد هذه الملاحظة كلود فوتييه، الذي كان من أوائل مؤرخي سياسة فرنسا في إفريقيا. كتب المؤلف الراحل صاحب كتاب "أربعة رؤساء وأفريقيا" (1) أنه "إذا كانت إفريقيا قد جلبت الحظ للجنرال ديغول"، فقد أدت "على العكس، دورًا ضارًا إلى حد ما [...] في المسيرة السياسية للرئيس فاليري جيسكار ديستان".

 

افتتان يقترب من الصوفية

كانت أولى كلمات خليفة الجنرال ديغول وبومبيدو بشأن الدور الذي ينوي الاضطلاع به في إفريقيا واعدة رغم كل شيء. وكان المرشح جيسكار قد أكد خلال مقابلة مع "الهيئة الفرنسية للإذاعة والتلفزيون" (ORTF) خلال الحملة الرئاسية لعام 1974 أنه "سيكون من الضروري إعطاء دفعة جديدة للتعاون بين فرنسا والدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية"، كما اقترح إعادة وزارة الدولة للتعاون، التي ألغيت تحت رئاسة جورج بومبيدو.

ويذكر أنطوان غلاسر (2) عالم السياسة والمتخصص في شبكة "فرانسافريك" أن ديستان "بصفته وزير المالية والاقتصاد الذي لم يغادر منصبه تقريبًا في معظم الحكومات في عهد ديغول وبومبيدو منذ عام 1962، شاهد كيف تعمل آلية منطقة الفرنك، والتي كانت بمثابة الحبل السُّري بين فرنسا و مستعمراتها الأفريقية السابقة". ويضيف قائلا: "من بين جميع المرشحين الرئاسيين عام 1974، كان جيسكار بلا شك أفضل من يعرف البلدان الأفريقية وإمكاناتها الاقتصادية. وبصفته وزيراً، كان يقابل بانتظام صناع القرار الأفارقة. وضمن هذا المنحى، أدرك الحاجة إلى إعطاء دفعة جديدة للتعاون الفرنسي الأفريقي وتغيير شكله التقليدي المتكون من سلسلة من التدخلات وعمليات الدفاع عن المصالح السياسية والاقتصادية والتي انحصر فيها منذ استقلال المستعمرات".

وتعود بدايات جيسكار في إفريقيا في الواقع إلى فترة سابقة لدخوله الحكومة. كانت هواية الصيد الذي مارسه بفضل أحد أبناء عمومته، وهو رئيس بنك استثماري أفريقي، هي التي قادت فاليري جيسكار ديستان أول مرة إلى إفريقيا السوداء في أوائل ستينيات القرن العشرين. كانت هذه الرحلات بلا شك مصدر الانبهار الذي شعر به من سيكون مستقبلاً رئيس فرنسا نحو "الليالي الإفريقية الفخمة"، التي مثل اكتشافها لديه "أحلام شباب لا تقاوم"، كما كتب هو نفسه في سيرته حياته المنشورة عام 1988 تحت عنوان "السلطة والحياة" (3). وهذا الافتتان الصوفي تقريباً، إلى جانب الجدل حول تناقضات دبلوماسية طبعها الفساد وأعمال العائلة، ميز دوماً الجيسكاردية الأفريقية، وحجب جانبها المبتكر، الذي مثل قطيعة مع الممارسة الديغولية فيما يخص العلاقات مع أفريقيا. ويؤكد أنطوان غلاسر أن "عدداً من مظاهر القطيعة يجعل ديستان أول رئيس فرنسي ينتمي إلى ما بعد الاستعمار، حتى لو لم تكن الخطوات المتخذة في هذا الاتجاه ناجحة بالضرورة".

 

مظاهر القطيعة

وفقًا للمتخصصين، فإن القطيعة التي دعا إليها ديستان كانت على علاقة بكل من الشخصية والمسار الخاصين لرئيس الجمهورية الجديد بقدر ما كانت تتعلق أيضاً بالسياق الدبلوماسي والجيوسياسي. فقد دخلت العلاقات الفرنسية الإفريقية منعطفًا جديدًا في بداية سبعينيات القرن العشرين مع انهيار حلم ديغول في إنشاء "كومنولث على النمط الفرنسي" والمطالب الملحة التي عبرت عنها بعض المستعمرات الإفريقية السابقة بإعادة التفاوض على الاتفاقيات الثنائية المبرمة في فرنسا في حقبة الاستقلال، والتي تمثل "حجر الزاوية في العلاقة بين القوة الاستعمارية القديمة" و‘ساحتها الخلفية’"، وفقا للمؤرخ جان بيير بات. وهذا التطور الذي شهده الحوار الفرنسي الإفريقي، والذي رواه الأخير ببراعة في عرضه التاريخي لملامح السياسة الفرنسية في إفريقيا من 1959 إلى اليوم (4)، هو السياق الذي جرت فيه الانتخابات الرئاسية لعام 1974 والتي أدخلت ديستان قصر الإليزيه.

وكان الإجراء الأكثر إثارة الذي اتخذه جيسكار في أعقاب انتخابه هو إنهاء عمل الأمانة العامة لشؤون إفريقيا ومدغشقر، وبالتالي إبعاد زعيمها التاريخي جاك فوكارت. وقد جسد فوكارت هذا، وهو مستشار كل من الجنرال ديجول وبومبيدو حول العلاقات السياسية والدبلوماسية مع المستعمرات الأفريقية السابقة، رؤية ديغول للعلاقات الفرنسية الإفريقية. ويوضح أنطوان غلاسر أن "شبكة العلاقات الفرنسية الإفريقية التي أنشأتها شخصيات فرنسية وإفريقية عشية الاستقلال كانت نظامًا متكاملًا على المستوسات السياسية والعسكرية والمالية، قائمًا على المصير المشترك بين فرنسا ومستعمراتها السابقة". ويضيف هذا المتخصص أنه مع ذلك "فإن التغييرات السياسية الداخلية التي مرت بها دول ‘الحديقة الخلفية’ بالإضافة إلى التغيرات الجيوسياسية في القارة منذ نهاية ستينيات القرن العشرين جعلت هذه الرؤية غير عملية، وذلك ما دفع صناع القرار الفرنسيين والأفارقة إلى تصور أساليب جديدة للتوافق مع شركائهم الأفارقة".

ومما لا شك فيه أن هذا الوعي بالحاجة إلى إحداث تغيير في العلاقات مع المركز الاستعماري السابق هو الذي يفسر أن ما تعرض له جاك فوكارت من ترذيل لم يثر أي امتعاض ذي بال في العواصم الإفريقية التي كانت قريبة من "مسيو أفريقيا" في الحقبة الديغولية. خاصة أن جيسكار، فور انتخابه، أعاد وفقًا لوعده الانتخابي وزارة التعاون التي شرعت في ممارسة صلاحيات الأمانة العامة السابقة لشؤون إفريقيا ومدغشقر.

وكانت إعادة تشكيل  وزارة التعاون تلبى رغبات معظم القادة الأفارقة في ذلك الوقت. وخلال الأشهر الأخيرة من عام 1974، شارك هؤلاء في المشاورات الموسعة التي بدأها الوزير الجديد من أجل صياغة التوجهات المستقبلية للتعاون الفرنسي في إفريقيا. ويضع تقرير آبَلين، الذي حمل اسم الوزير آنذك ونُشر في أكتوبر 1975، أسس "سياسة التعاون الفرنسي الجديدة". وركيزتا هذه السياسة الجديدة كانتا توسيع مجال الاهتمامات الجيوسياسية، وذلك أحياناً على حساب التضامنات التاريخية، ومراعاة الاعتبارات الاقتصادية.

 

التحولات

إذا كانت العلاقات التي استمرت فرنسا في الحفاظ عليها مع حلفائها التاريخيين في القارة، ولا سيما مع السنغال وساحل العاج، في السبعينيات، ظلت وثيقة العرى، فإن فترة السبع سنوات التي حكم فيها ديستان تميزت أيضًا بانفتاح السياسة الفرنسية على شركاء جدد، ليسوا تقليديًا جزءًا من "الفناء الخلفي" الناطق بالفرنسية. فالمصالحة مع غينيا بقيادة سيكو توري ونيجيريا في غرب إفريقيا أو، في المغرب العربي، مع الجزائر، حيث كان جيسكار ديستان أول رئيس دولة فرنسي يزورها، ومع المغرب الذي نبذته فرنسا منذ  قضية بن بركة، كلها خطوات تتماشى مع طموح باريس للخروج من مصفوفة ديغول السياسية والإستراتيجية وإزالة "غموض فترة ما بعد الاستعمار". وزيارة الدولة التي أداها ساكن قصر الإليزيه إلى كوناكري في ديسمبر 1978 مرتديًا حول رقبته الوشاح الأحمر لرواد الثورة الغينية المناهضة للاستعمار، وكذلك كلمات الخطاب ("إن فرنسا التاريخية تحيي الجزائر المستقلة") التي أعلنها جيسكار عند وصوله إلى الجزائر في أبريل 1975، كلها عناصر مستوحاة من هذا النهج الذي وصفه البعض فعلاً بأنه ينتمي إلى "ما بعد الاستعمار".

وتشكل الأولوية الممنوحة للبعد الاقتصادي والتجاري الركيزة الثانية لتجديد التعاون الفرنسي الأفريقي. ويذكر تقرير آبَلين هذا بوضوح بالغ داعياً إلى "إعادة توازن" التدفقات التجارية لصالح المجالات "المرتبطة مباشرة بالتنمية الاقتصادية للدول". لقد أصبحت القمم الفرنسية الأفريقية، التي بدأت في عهد بومبيدو ومن ثم منحتها إدارة جيسكار ديستان الطابع المؤسسي، المكان المتميز لتطوير هذا "التعاون الجديد" والذي بات منذ ذلك الحين قائماً على "المصالح المتبادلة بدلاً من علاقات التبعية". وسيتخذ الرئيس هذه القمم منتدى متميزًا لتأكيد قناعاته المناهضة للإمبريالية، داعياً إلى "ترك إفريقيا للأفارقة".

كانت هذه القمم تنظم بالتناوب في فرنسا وإفريقيا، وعُقدت خمس دورات من اجتماعات الأسرة الفرنسية الأفريقية هذه في عهد الرئيس جيسكار ديستان. ومنذ عام 1976، ضمت هذه الاجتماعات أيضًا البلدان الناطقة باللغة البرتغالية ومن عام 1980 البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية، عاكسة توسيع فكرة التعاون الاقتصادي، التي لم يعد يمكن اختزالها في علاقة بين القوة الاستعمارية السابقة ومستعمراتها القديمة. وفي الوقت نفسه، يتعلق الأمر في نظر فرنسا بتعزيز "تنمية إفريقيا التي تقدم نفسها [...] بحلول عام 2000 باعتبارها أحد الشركاء الأساسيين لأوروبا"، كما يذكر بذلك تقرير آبـَلَين. وقد مثل التوقيع في يونيو 1975 على  اتفاقية لومي  الأولى بين المجموعة "الاقتصادية الأوروبية" وشركائها في الجنوب (إفريقيا والكاريبي والمحيط الهادئ) بطريقة ما تجسيدًا لهذا "الحلم الكبير" لدى جيسكارد ديستان وهو حلم يدرجه بحزم ضمن منظور أوروبي أفريقي.

وستكون القضايا الأكثر إشكالية هي المقترحات بإنشاء الدول الغربية صندوقاً استثنائياً لتنمية إفريقيا، تمامًا مثل المشروع "الثلاثي" الذي يجمع بين الدول المنتجة للنفط والدول الصناعية المستهلكة والدول الأقل نمواً. هذه المشاريع التي تم إطلاقها في القمة الفرنسية الإفريقية عام 1979، استجابة لأزمات النفط في ذلك الوقت، ستبقى مجرد أمنيات وردية. وتبقى الحقيقة أن صفحة طويت في العلاقات الفرنسية الإفريقية، حتى لو أن ظلال جاك فوكارت بقيت تحوم حول الإليزيه لفترة طويلة من حيث أن  رينيه جورنياك ومارتن كيرش، اللذيْن كانا على التوالي مستشاري الرئيس جيسكار ديستان لشؤون إفريقيا، قادمان من الأمانة العامة السابقة لشؤون إفريقيا ومدغشقر.

 

صورة فرنسا المتدهورة

رغم مبادراته المبتكرة وطموحه الفعلي لتغيير النموذج السائد فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي والاستراتيجي، فقد استمرت سمعة ديستان في التدهور في إفريقيا خلال فترة رئاسته. ولم تكن قضية بوكاسا غريبة عن هذا السياق، لأنها شوهت بشكل قاطع صورة رئيس الدولة الفرنسي بين أقرانه الأفارقة الذين، كما كتب جان بيير بات، لم يكن بوكاسا يحظى لديهم إلا "بالقليل من التوقير"، معتبرين أن مغامرات زعيم إفريقيا الوسطى كانت تقدم "صورة سلبية عن الطبقة الأفريقية الحاكمة".

ويضيف أنطوان غلاسر: "لقد كانوا يسخرون من جيسكار علانية. خاصة وأن الرئيس الفرنسي قد خضع تماماً لاستغلال بوكاسا، الذي أجبره على اللحاق به في مهزلة تتويجه عام 1977". ومن المفارقات أن الإطاحة بهذا الإمبراطور بعد عامين، وقد أصبح حينها ديكتاتورًا متعطشًا للدماء، لن يُنظر إليها في العواصم الأفريقية على أنها إنقاذ للبلاد من براثنه، بل باعتبارها تدخلاً لا يمكن قبوله للقوة الاستعمارية القديمة، وباعتبار أن دافعه الأهم ليس رفض الديكتاتورية، بل الحاجة الاستراتيجية إلى إنهاء محاولات التقارب بين جمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا، العدو الأول لفرنسا على أبواب "مربع نفوذها".

في الواقع كانت عملية "باراكودا"، وهو الاسم الذي أطلق على تدخل القوات الفرنسية في جمهورية إفريقيا الوسطى عام 1979، تندرج ضمن استمرارية الدبلوماسية الحربية الموروثة عن ديغول وفوكارت والهادفة إلى ضمان الحفاظ على مجال النفوذ الفرنسي في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وقد تميزت سنوات جيسكار بكثرة التدخلات العسكرية الفرنسية. فينما لم تسجل إلا عمليتان عسكريتان فرنسيتان في إفريقيا، في كل من الغابون وتشاد، تحت رئاسة ديغول، تدخلت فرنسا ست مرات بين عامي 1977 و1981: مرتين في زائير (في أبريل 1977 ثم في مايو ويونيو 1978) وفي موريتانيا (في نوفمبر 1977 ويونيو 1978)، وفي تشاد (أوائل 1978 وفي مايو 1980) وفي جمهورية إفريقيا الوسطى (سبتمبر 1979)، ناهيك بمحاولات زعزعة الاستقرار التي نظمتها وراء الكواليس أجهزة الاستخبارات الفرنسية، ولا سيما في أنغولا، وفي داهومي السابقة (بنين حاليًا) وفي جزر القمر.

وهذه العمليات العسكرية الفرنسية، التي دعمتها الأنظمة الصديقة في إفريقيا ووجدت فيها منافع لها مقابل مواقف اقتصادية مواتية لفرنسا سواء لصادراتها أو لإمداداتها من المعادن الخام، تعرضت لانتقادات عنيفة في المحافل الدولية. واتهم فرنسا خصومُها بأنها "دركي الغرب" أو حتى "كوبا الولايات المتحدة"، في إشارة إلى إنزال قوات فيدل كاسترو عام 1975 في أنغولا، بتوجيه من الاتحاد السوفيتي السابق. وكانت واشنطن، وقد أرهقتها مغامرتها الفيتنامية الطويلة، لا تخفي رضاها عن رؤية فرنسا وهي تتولى الحفاظ على السلام في إفريقيا التي أصبحت مسرحًا جديدًا للمواجهات بين الشرق والغرب.

وكانت انتقادات المجتمع الدولي تصل أحيانًا إلى الجمعية الوطنية في باريس، حيث تثور التساؤلات عن تناقضات المناورات الفرنسية الكبرى، خاصة في تشاد. وقد استهدفت هذه المناورات ليبيا المجاورة التي كانت عدوانية بشدة، بينما سُمح للشركات الفرنسية في نفس الوقت بالتعامل مع نظام القذافي المنبوذ. كما أعرب البرلمانيون عن قلقهم إزاء تدهور صورة فرنسا في جنوب القارة حيث أثار تكثيف تعاونها العسكري التقليدي مع جنوب إفريقيا، التي كانت ما تزال تحت نظام الفصل العنصري، غضبًا حقيقيًا لدى دول ما يسمى بمجموعة "الجبهة"، التي كانت في مواجهة مع بريتوريا.

بالطبع، بدأ التعاون مع جنوب إفريقيا تحت قيادة الجنرال ديغول. ومع ذلك، ألم يعلن فاليري جيسكار ديستان عندما تولى منصبه في عام 1974، أنه يريد أن ينأى بنفسه عن إرث أسلافه؟ لا شك في أن التوقعات التي أثيرت توضح أنه عند تقييم جيسكار الإفريقي، قد تبدو صورة الرئيس المنتهية ولايته متلهفًا لبيع محطات للطاقة النووية في بريتوريا، بعيدة جدًا عن الرجل الذي أراد إعادة "إفريقيا إلى الأفارقة". لقد سمحت فرنسا الجيسكاردية لنفسها، كما حصل مع أسلافها، بأن تنحبس في سياسة التأثير والهيمنة الموروثة من التاريخ، دون أن تنجح في وضع استراتيجية تنبني على مبدأ المصالح المتبادلة في الواقع الجديد. وقد كان من شأن القضايا المشبوهة، والإقامات الخاصة للرئيس، وعلاقاته الشخصية الغامضة مع نظرائه التي فُسرت بالضرورة بأنها ممارسات فساد بعد الكشف عن الهدايا التي قبلها دون تمحيص، أن تؤثر على سياسة جيسكار الإفريقية وأن تؤثر حتى بعد مغادرته الرئاسة.

(1) [أربعة رؤساء وأفريقيا: ديغول، بومبيدو، جيسكار ديستان، ميتران]، كلود فوتييه، سلسلة "إيستوار إيمّديات"، مطابع سويْ، 1955.

(2) ألّف أنطوان غلاسر العديد من الكتب عن العلاقات الفرنسية الأفريقية، وكتابه الأخير بعنوان: [جواسيسنا الأعزاء في إفريقيا] (فايارد، 2018).

(3) [السلطة والحياة]، المجلد الأول، فاليري جيسكار ديستان، مطابع "كومباني 12"، 1988.

(4) [متلازمة فوكارت: السياسة الفرنسية في إفريقيا من 1959 إلى اليوم]، جان بيير بات، مطابع غايّيمار، 2012.

الكاتب: تيرتانكار شاندا

المصدر: موقع إذاعة فرنسا الدولية (03/12/2020)

ترجمة: "الشروق ميديا"، للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.

اقرأ أيضا