إفريقيا وفرنسا.. وقائع قمة | آشيل مبمبي

أربعاء, 2021-11-24 10:49

ترجمات الشروق ميديا - بعد أن كلفه إيمانويل ماكرون بإجراء سلسلة من الحوارات في جميع أنحاء القارة ووضع مقترحات للقمة الإفريقية الفرنسية في مونبلييه في 8 أكتوبر، يحلل المؤرخ الكاميروني التقدم المحرَز. كما يصفي، عرضاً، بعض الحسابات.

---

أخيرا، انعقدت القمة الإفريقية الفرنسية الجديدة. وقد شارك الكثيرون منا. كما كان آلاف آخرون منخرطين، في مراحل معينة، في المسار الذي أدى إليها. وفي تاريخ العلاقات بين إفريقيا وفرنسا، لم تختر أي قمة أخرى نهجاً على هذا القدر من التشارك ولا طلبت رأي عدد كهذا من الأصوات ووجهات النظر. ودون ريب، لم تثر أي قمة أخرى مثل الذي أثارت من الحماس أو العواطف، سواء في إفريقيا أو في بقية أنحاء العالم. والسبب في ذلك بسيط. ثمة أمر يحدث بالفعل. إن الكثير من تاريخ العلاقات بين إفريقيا وفرنسا والعالم ما زالت تتعين كتابته، والأعمى هو من تمنعه تحيزاته من ملاحظة ذلك.

 

هوس مرضي

إن المظالم الملقاة على فرنسا وأفعالها في إفريقيا معروفة منذ زمن بعيد. ولا وجود لأي لغز على هذا المستوى. ولأنه جُمع القليل جدًا من المعارف الجديدة على مدار العقود الماضية، تستند النزعة النضالية المناهضة لفرنسا، سواء في القارة أو داخل فرنسا، على مخزون من المعارف المنتهية الصلاحية، رغم أن الواقع على الأرض ظل في تحول دائب. وعلى سبيل المثال، فإن أكبر شركاء فرنسا التجاريين في إفريقيا جنوب الصحراء ليسوا دولًا ناطقة بالفرنسية، بل هم جنوب إفريقيا وأنغولا ونيجيريا. أما في إفريقيا الناطقة بالفرنسية، فما تزال فرنسا موضوعاً لهوس مرضي في بعض الأحيان، بينما يستمر الاهتمام بإفريقيا في الأوساط الفرنسية الوازنة في التضاؤل، هذا إن لم يتحول بكل بساطة إلى موقف اللامبالاة.

إن فقر النقاش الفكري حول العلاقات بين فرنسا وإفريقيا ليس واضحًا فقط في الأوساط النضالية. بل إنه يميز إسهامات معلقين كثر، وحتى إسهامات الكثير من الأكاديميين، الذين يرتاحون أكثر حين يكررون أنماط تفكير قديمة ويعيدون تدويرها، بدلاً من الاضطرار إلى إجراء بحوث صارمة وموثقة. ومن هنا تنبع التأكيدات القطعية والتي عفا عليها الزمن، واللجوء إلى السباب واللعن حيث يحتاج المرء إلى التحليل الدقيق.

كنت قد شكلت لجنة مكونة من شخصيات دولية مستقلة، لا شية في سمعتها. وأردنا معًا أن تقود المناقشات بشكل أساسي إلى مقترحات. فهذا في الواقع هو أكثر ما يُفتقد، ضمن حالة الخمول العام والاستخفاف السائد. كان التفكير الجماعي التي تضمنته هذه المناقشات نقطة انطلاق للتقرير الذي كتبته والذي قُدم رسميًا إلى الرئيس إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه. لكن هذا التفكير الجماعي كان أيضًا أساسًا لثلاثة عشر اقتراحًا، سيكون بعضها موضع التنفيذ قريبًا.

 

مكسورون تحت عبء التاريخ

في مونبلييه، تمكن إيمانويل ماكرون من مناقشة جميع الموضوعات المزعجة مع أحد عشر شاباً "من التبر" اخترناهم. ولأول مرة في تاريخ العلاقات بين إفريقيا وفرنسا، جرى التطرق علناً وفي مؤسسة رسمية لقضايا مثل الفرنك الغرب إفريقي والقواعد العسكرية والتدخلات المسلحة والآثار الضارة للاستعمار، وذلك من وجهة نظر الكثير من الأفارقة وليس خلف المتاريس أو غيرها من الأماكن الأخرى. وإذا كان قد بدا خلال هذا النقاش أن الماضي حظي بأبرز الحضور، فإن ذلك لم يكن إلا من باب التنفيس. لا بد من فقء الدُّمَّل حتى يمكن التقدم نحو أمور أخرى، وقد شهدت جلسات الصباح رسم آفاق جديدة. وفيما يعنيني يستحق هذا الصوت الحر، وهذا الخطاب المفعم بالكرامة والخالي من التنازلات الصادر عن الأجيال الشابة، وزنه ذهباً.

لقد كرستُ خلال الأشهر الثمانية الماضية معظم وقتي للاستماع إلى كل أنواع الأحاديث. لم أستمع بهذا القدر من قبل في حياتي. وقد اطلعت على جميع أنواع الوثائق والتقيت بكل أنواع الناس. البعض لا يؤمنون بأي شيء، ولا حتى بأنفسهم. والبعض الآخر ليس لديهم أي وعي ملموس بالعالم. وآخرون يعيشون على مخزون من الإجابات الجاهزة لأسئلة من عهد سحيق لم يعد أحد يطرحها.

شعرت أحيانًا بالغثيان. وقد استطعت أن أعاين إلى أي حد تنتقل جراح الاستعمار من جيل إلى جيل. وفي رأي كثير من الأفارقة الذين يحطمهم عبء التاريخ، باتت فرنسا بالفعل معادلاً لعضو وهمي. فأحيانًا يثيرون الضوضاء زاعمين أنهم يريدون التخلص منه، غالبًا عبر الشتائم. لكن، كبقايا الأعضاء الحية التي تعيش على ذكرى البتر، هل قاسُوا حقاً مقدار عمق ارتباطهم بجلادهم المزعوم؟ إن الاضطاد لا يحصل على الساحة المادية فقط. فبعد فترة طويلة من الاستعمار، يستمر في افتراس الخيال.

 

وريث إيمانويل ماكرون

في هذا الصدد، ما الذي لم أرَه أو أقرأه أو أسمعه؟ يظل فلان أو فلان من الناس طوال اليوم يندد على الشبكات الاجتماعية بالإمبريالية الفرنسية و"أتباعها". وبحلول الظلام يتسلل نفس الشخص لواذاً، كالفريسيين المتظاهرين بالتقوى المذكورين في الإنجيل، ليسألني إن كنت أستطيع الحصول له على بطاقة دعوة لمونبلييه. كم مرة اعتُبرت وريثاً لإيمانويل ماكرون؟ لم أعد أستطيع إحصاء عدد الرسائل التي تلقيتها من أكثر من "نصير متحمس للوحدة الإفريقية" يتوسل إلي للتوسط لديه (ماكرون) من أجل هذه الخدمة أو تلك، وبشكل عام من أجل إقامة في فرنسا.

وقد تلقيت طلبات أخرى أكثر جدية. وحيثما أمكنني ذلك، أرسلتها لمن يهمه الأمر. وقد كانت في معظمها شواهد نمطية على بؤس الأوقات التي نعيشها. فيما ركز بعضها الآخر على انتهاكات حقوق الإنسان في بلدان محددة. وقد أظهرت التفاعلات مع الأفارقة أمرين أو ثلاثة. أولاً: كثيرون فعلاً أولئك الذين لم يؤمنوا بأنفسهم أبدًا. بل فوضوا حياتهم للآخرين، ويتوقعون من هؤلاء أن يتصرفوا مكانهم. ويعيش آخرون في خوف من أخذ زمام المسؤولية عن أنفسهم أو من التلاعب بهم. أو يبحثون عن كباش فداء. وبالنسبة لآخرين أيضًا، ليس التاريخ نفسه إلا مطاردة للساحرات ليست لها نهاية. وهؤلاء يرون في فرنسا العدو الرئيسي للقارة. وحتى لو كان ذلك يعني الوقوع في أيدي مفترسين آخرين أخف أو أشد إجراماً، فهم يريدون طرد فرنسا من إفريقيا. إذ يعتقدون أنها المسؤول الأساسي عن مصائبهم وإخفاقاتهم. وهؤلاء يشكلون الكتائب المتقدمة من حثالة الراديكالية (lumpen-radicalisme) الإفريقية الجديدة.

يشعر الآخرون، وأحيانًا حتى هؤلاء أنفسهم، بخيبة أمل في فرنسا ولم يعودوا يتوقعون منها أي شيء. لقد أداروا عنها ظهورهم فعلاً. وهم يتطلعون إلى آخرين كالروس والصينيين والأتراك، أو إلى أي كان، طالما أنه ليس فرنسا. ما زال البعض متشككين. وهم يطالبون بإثباتات، وينخرطون في مقاومة سلبية، وفي كثير من الأحيان ينتظرون وسواعدهم مشبكة أن ينجز الآخرون "العمل القذر" نيابة عنهم. وأخيرًا، توجد قلة من الآخرين تستفيد من الوضع الراهن ولا ترى أي سبب لتغيير الأوضاع.

 

نحو فتح العالم

لكنني قابلت أيضًا أفرادًا لامعين، مدفوعين بالرغبة في تغيير مجريات الأمور، وهم مستعدون لوضع ذكائهم في خدمة قضية رابحة. ونجد هؤلاء في كل مكان تقريبًا. إنهم يعملون في فجوات المجتمع. لقد وجدت آلاف المهنيين. يعملون في الشركات متعددة الجنسيات، في البنوك، في مختلف الصناعات، في ميدان الإعلام والاتصال، في عالم التأمين... وهم منخرطون في جميع أنواع النضالات الجديدة، سواء كانت تتعلق بالبيئة أو التنوع الحيوي أو المناخ. وهم حاضرون في الإبداع عموماً والتقنيات الرقمية وغيرها من التقنيات الجديدة، ومستعدون لفتح العالم.

ومعظم الذين شاركوا في دورة المناقشات التي قدتها يريدون العمل مع فرنسا. يريدون أن يفعلوا ذلك بشفافية، دون تنازلات، وعلى أسس جديد تمامًا. يريدون التفاوض من جديد. وقد كانت القمة الجديدة تجربة من هذا المنظور. إن هذا النوع من العمل الثقافي والسياسي والفكري داخل المؤسسات أمر لا غنى عنه. وهذا لا يقصي أشكال التعبئة الأخرى، الأكثر صخباً وحدية ربما، والأكثر تشددًا في الظاهر. والأمر كله يتوقف على النتائج.

 

سيادية فارغة

بعد أن اخترت اختبار الأمور من الداخل، أستطيع الآن أن أقول إنه يمكن فعلاً إحداث تحول في النموذج السائد، بشرط معرفة سُبُل التعامل معه. إن في الكفاح من أجل أن تنهض إفريقيا وتمشي على رجليها هي، متسعاً للجميع. وللجميع أن يشاركوا مهما تكن معتقداتهم وأمزجتهم وآفاقهم. وقناعتي، على غرار كثيرين منا، هي بناء عالم مشترك في هذه اللحظة التي يصير فيها الكوكب صغيرًا جدًا. ولتحقيق ذلك، لا مناص من تكوين كتلة تاريخية جديدة، وإرساء أنواع أخرى من التحالفات، ولكن لا محيد أيضًا عن تغيير مرجعياتنا للقراءة والتأويل. إن السيادية الفارغة، أمر لا أؤمن بها على الإطلاق. ثمة أمور سيتعين على إفريقيا حلها بمفردها، وثمة أمور أخرى لن تتمكن من حلها إلا عبر الحوار مع العالم. وبالمناسبة ينطبق هذا، من الآن فصاعدًا، على الجميع.

يسعى إيمانويل ماكرون إلى إحداث تحول في العلاقات التي تقيمها فرنسا مع إفريقيا. وهو يدرك أن عمر دوائر النفوذ الفرنسية الإفريقية "فرانسافريك" قد وصل إلى نهايته. ويريد، بدلاً منها، أن يخترع شيئًا آخر. وفي الواقع حان الوقت للمضي قدماً نحو شيء آخر. ويجب أن نعبر هذا معاً، وإلا فلن ننجح. وحين يتعلق الأمر بإفريقيا وفرنسا، فهذا هو ما يراهن عليه معظمنا. لا شيء يضمن نجاحه، لكن لا تأكيد أيضًا بأنه سيفشل. ولدى آخرين رهان مختلف، أو يفضلون الامتناع عن أي مخاطرة، وينتظرون بحكمة ليروا على أي جانب سيسقط حجر النرد.

أعتقد أننا في مونبلييه شرعنا في كسر القالب. لكن لا بد من تحطيم العجل الذهبي نفسه، وهذا يتطلب عملاً هائلاً سوف يمتد على الأقل لجيل أو جيلين. وليست التعويذات وحدها كافية لتحقيق ذلك. لقد قرأ الكثيرون منا ودرسوا الشيخ أنتا ديوب ونكروما وفانون وسيزير وكابرال وسانكارا وآخرين. لسنا بحاجة إلى ترتيل ما قالوه. بل نحتاج إلى نظرية حقيقية لإتمام الأمر. وإن تصفية "فرانسافريك" اليوم لن تحصل بالأدوات الفكرية القديمة.

 

تحديات مستقبلية

كان من أهداف القمة الجديدة الحصول من فرنسا على موقف واضح بشأن قضايا حاسمة وعدد من التحديات المستقبلية. أردنا أن يكون موقفها إلى جانب الديمقراطية بشكل لا لبس فيه. سوف يُنشأ صندوق لدعم الابتكار والديمقراطية. وتعد الديمقراطية والابتكار، على غرار التنوع الحيوي، أحد شروط استدامتنا الاجتماعية والبيئية. ولقد كانت آثار الطغيان في إفريقيا شبيهة بآثار الاحترار العالمي، وقد دمر حتى شروط الوجود ذاتها. إن لدينا مجتمعات مرنة ومنفتحة ثقافيًا وقادرة على الصمود والتكيف ومتطلعة نحو الابتكار. لكننا نعاني من أنظمة مغلقة وجامدة. وهذا هو الاختلال الذي يجب تصحيحه. لم يعد ممكناً اليوم تحمّل الفجوة بين إبداع مجتمعاتنا وبين تكلس المؤسسات وأنماط الحكم فيها. وهذا هو التنافر الذي يجب إنهاؤه. وسيكون الصندوق أحد الأدوات في هذا الصدد.

وفي مواجهة تصاعد مخاطر النزعات الهوياتية والعنصرية في العالم، أردنا أن تلتزم فرنسا بشكل لا لبس فيه بالاعتراف بجزئها الإفريقي؛ بنصيب العبقرية الإفريقية في تكوين الفكرة الفرنسية. سوف يُشيَّد بيت لإفريقيا والجاليات، ولن يكون في الضواحي بل في قلب العاصمة. ونريد أن تتوقف بعض الممارسات الموروثة من الماضي. لقد أقر إيمانويل ماكرون علنًا بأن الجيش الفرنسي لا ينوي البقاء في إفريقيا. وعليه، تستطيع الدول التي ترغب في ذلك فتح مفاوضات مع فرنسا تمكّن من بناء تصور جديد لأشكال أخرى من التعاون على المستوى العسكري لأننا بحاجة إليها.

وقد يؤدي ذلك، على سبيل المثال، إلى دعم آليات الأمن الجماعي الإقليمية والإفريقية أو إلى زيادة دعم القدرات العملياتية للقوات الإفريقية المحتملة. ويمكن استشراف نفس الأمر فيما يتعلق بسياسة التعاون النقدي. لم يعد للفرنك الغرب إفريقي في الواقع مستقبل في إفريقيا، وهو اليوم عملة ترتدي قناع الموت. إن اللحظة سانحة لتفتُّح الأفكار والمقترحات. لكن كما نعلم، يبقى النقد العبثي أحيانًا أسهل من القدرة على صياغة المقترحات.

لفترة طويلة، دعمت فرنسا أنظمة ديكتاتورية لدينا. وانتهى الأمر بتلك الأنظمة إلى تدمير وسائل عيش الملايين من الناس. وعليها الآن أن تقدم مساهمتها المتواضعة في تفكيك الاستبداد في قارتنا. وهذا أحد شروط استئناف حوار مثمر معها وإحداث تحول في طبيعة علاقاتنا المشتركة.  لا أحد سوف يرسي الديمقراطية في إفريقيا بدلاً من الأفارقة، لكن المسؤولية الأخلاقية للبشرية جمعاء أن تضمن حقوق جميع من يعيشون على هذا الكوكب. ويجب على فرنسا وعلى بلداننا دفع نصيبها من هذا العبء الذي ندين به لوجودنا الجماعي، بشرياً كان أو غير بشري.

آشيل مبيمبي - مؤرخ وأستاذ علوم سياسية كاميروني.

ترجمة: الشروق ميديا - المصدر: جون آفريك

للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.

اقرأ أيضا