س: لو طلبت منك بداية أن تشرح لنا باختصار رأيك فيما آل إليه "ملف العشرية" الآن، ما ذا تقول؟
ج: بداية يجب علي القول إنني لا أدافع عن رأي أحد ولا عن رؤيته للملف، إنما أقدم أجوبتي من واقع الخبرة، ومن تحليل الأحداث. طبعا رؤيتي للملف بشكل عام إيجابية، رغم ما أعتقد أنه وقع من أخطاء، وما اعترض من مطبات. وسأحاول شرح ذلك أكثر؛ هذا ملف معقد إلى درجة لا يمكن تصديقها، تتداخل فيه كل الأبعاد التي قد ترد إلى الذهن، وأبعاد أخرى لن يراها إلا المجربون القريبون من الملف.
مثلا؛ لهذا الملف أبعاد قانونية، واقتصادية، وفنية إدارية، وعدلية، وسياسية.. تتداخل مع أبعاد الداخل والخارج. ليست السياسة هنا، ولا الخارج، بالمعنى الذي يتناوله أصحاب الدعاية السياسية الجوفاء. السياسة، بمعنى أننا مجتمع مقسم قبليا، ومناطقيا، للأسف، وأن دولتنا لم تصل بعد إلى تلك الدرجة من القوة، وكثير من أبناء القبائل والمناطق يسهل أن تنطلي عليهم دعاية أن هذا استهداف لجهة كذا، ولحلف كذا.. وأفضل طريقة لتجنب هذه الجدليات هو أن تقوم كل جهة بعملها الفني دون تدخل من أحد.
البعد الخارجي الذي أعنيه ليس لأن فلانا لديه علاقات مع هذا الطرف الخارجي أو ذاك، فمن الاستخفاف بالعقول الحديث عن تدخل دولة لصالح متهم في قضية جزئية في بلاده، هذا لا تفعله الدول ولا تقبله الدجول.. البعد الخارجي في هذا الملف هي أنه فتح عيون العالم على موريتانيا من زاوية الاقتصاد والاستثمار، واستقلال القضاء، وفاعلية المؤسسات.. هذا الملف باختصار سيحدد صورة البلد في عيون المستثمرين والشركاء الاقتصاديين على المديين القريب والمتوسط.. أرجو أن أكون قربت الصورة التي في ذهني.
الملف الآن في مرحلة منتصف الطريق؛ فقد انتهت مرحلة جمع أدلة، إثبات ونفي التهم، وستبدأ مرحلة اختبار هذه الأدلة، وفحصها، وعرضها أمام أطراف الخصام، والتعليق عليها، تمهيدا لإصدار الأحكام..
س: ألا يؤشر كنت تقوله الآن إلى أن تهم التسييس التي تلاحق الملف لها ما يسندها؟
ج شوف؛ مداخل التسييس في هذا الملف لا تنتهي؛ فهو ملف يحاكم فيه رئيس دولة سابق، ووزارء سابقون، ومسؤولون سياسيون.. بدأ التحقيق فيه برلمانيون سياسيون، وفي بلد يتنفس السياسة في كل شيء، وفي مرحلة انتقال سياسي.
ومع هذا فإن تهم التسييس توجه إلى طرف لا أمثله، ولذلك قد لا يعنيني نفيها، وبطبيعة الحال لست منشغلا بإثباتها، ولكن بما أنك سألت فعلي أن أجيب، "ال احظر ما صاب يسكت".
عندما أنظر إلى الصورة الآن؛ أرى جهازا تنفيذيا كله صامت، وأرى إعلاميا حكوميا لا يدري عن الملف، وأرى إعلاما سياسيا داعما ومعارضا، لا يتناول الملف بأكثر من الأخبار.. وأرى أحزابا سياسية شبه صامتة إذا تكلمت يوما سكتت سنة، وأرى مدونين مختلطين؛ لا تنتظم تعليقاتهم عن الملف في أي مسار، كل يبدي رأيه في جزية أو شخص، أو خطوة.. هل يمكنني أن أفترض إرادة سياسية خلف هذا في بلد مركزي السلطة؟
طبعا لست مع سكوت الإعلام العمومي عن ملف رأي عام بهذا الحجم.. لكني أعتقد أنه سكوت أبعد شبه التسييس.
إني أجزم أن السلطة التنفيذية بذلت جهدا مضاعفا ليظل الملف بمنأى عن التسييس.. ولهذا لم تنجح محاولة أحد الأطراف جر الملف إلى معترك السياسة.
س: هذا استثنته اللجنة البرلمانية، وذلك استثنته النيابة، وهذا استثناه قاضي التحقيق.. في كل مرحلة يتم استثناء بعض الشخصيات التي يراد أن "تبقى في الخدمة".. حتى يبقى الصيد المقصود وحده، أو بعض الشخصيات للديكور.. أليس هذا الأمر مكشوفا الآن؟
ج: أولا أريد أن أنبه إلى ملاحظة؛ هذا الملف عمل جماعي في كل مراحله، من التحقيق البرلماني، إلى قطب النيابة، إلى قطب التحقيق.. هل يمكن أو يتصور أن تكون هناك أوامر أو توجيهات، أو محاولات توجيه، دون أن تتسرب؟ هل يعقل أن كل العاملين على هذا الملف في كل محطة متمالئون على قلب رجل واحد؟ هل يعقل هذا؟ هل يمكنك تصديقه. أنا شخصيا لا يمكنني ذلك.
لو افترضنا عكس الذي حصل؛ اللجنة اعتبرت كل شيء فاسدا، النيابة أحالت الجميع، قاضي التحقيق أحال الجميع..؛ ألا تعتقد في هذه الحالة أن عليك أن تعيد صياغة السؤال على هذا الأساس؟ أيهما أدعى للمصداقية؛ أن تسقط لجنة التحقيق بعض الملفات، وتحيل النيابة بعض المتهمين، إلى قطب التحقيق وبعد فحص الأدلة يحيل قطب التحقيق الملفات إلى قضاء الحكم، ثم تستأنف النيابة قرار قطب التحقيق، بعدم متابعة البعض، ثم يحكم القضاء حكما أوليا، يستأنف ثم يحكم على بعض ذلك البعض حكما نهائيا..
هذا السيناريو أليس هو العادي؟ أليس هو المنطق؟ أليس أقرب إلى المنطق من إدانة كل أحد في كل مرحلة، أو تبرئة كل أحد في كل مرحلة؟ بعضنا للأسف يريد القفز على المنطق.
س: طيب لو عدنا إلى صلب الملف؛ كل يوم يقول دفاع الرئيس السابق إن هناك سيلا من الخروقات، ألا يطعن هذا في مصداقية المحاكمة حتى قبل بدايتها؟
ج: أولا لم يقولوا هذا لما استحقوا أن يكونوا محامين، ولما كانوا جديرين بأخذ أجرتهم التي بالمناسبة أتوقع أن تكون كبيرة، أحيانا يتمنى الإنسان أن تتاح له فرصة الغنى بطريقة ما أعتقد أن دفاع بعض المتهمين ستكون لديه فرصة الآن.
المهم؛ مسؤولية المحامين أن يبحثوا عن الخروقات، ويحاولوا وجودها، وان يتمسكوا ببراءة موكليهم، وعادة بعضهم أن يحشر كل شي معارفه في معركة الدفاع عن المتهمين.. وهذه مهارة قد تكسب جزءا من الرأي العام، ولكنها قليلة التأثير في أروقة المحاكم، لأنها تكون أحيانا كثيرة خارج الموضوع.
لست قاضيا، ولا محاميا، ولكني أقدر حجم الضغط على القضاة، وأقدر مستوى الارتباك، وأفهم أسباب بعض الأخطاء، ولا أنفي أن تكون هناك خروقات.. وأعتقد أن محامي الطرف المدني مرة انتقدوا تصرف بعض القضاة أو الأقطاب.. ووقفوا إلى جانب زملائهم في دفاع الطرف الذي تشير إليه.
لكن لماذا لم يسأل أحد؛ عما يقوله دفاع بقية المتهمين..؟ هل هم مستهدفون أم غير مستهدفين؟ أعتقد أن هناك طرفا يخدمه أن يكون الملف سياسيا وتصفية حسابات، ولم يدخر جهدا في صناعة أجواء ذلك، ولكن أظن أن الفرصة فاتت.
س: بعض النواب الذين شاركوا في التحقيق يقولون إن الملف أفرغ من محتواه.. وبعضهم يستخدم عبارة "تم العبث به".. أليس معهم حق؟
ج: أعتقد أن اللجنة مجتمعة تستحق التهنئة على عملها، وأظن أن من وجدوا الوقت لدراسة عملها، أو اطلعوا على بعض كواليسه يفرقون بين من عمل، واجتهد وسهر، وبين من كان يرغي ويزبد دون أن يقدم كبير شيء في دراسة الملفات، وإعداد الأسئلة، ثم إعداد التقرير.. الفرق بين من تألق في استغلال وسائل التواصل الاجتماعي ومن أنجز العمل الفني الضخم غير المسبوق في تاريخ البلد والمنطقة.. على كل حال أعتقد أن من اهتم بوسائل التواصل الاجتماعي وقت التحقيق البرلماني قام بدور مهم لصالح اللجنة، ولكن أظنه مخطئا عندما يواصل محاولة استمرار لعب دور ما في الملف عبر وسائل التواصل الاجتماعي... لقد خرج الملف من عهدة التواصل الاجتماعي إلى عهدة القضاء.
هذا المنطق الذي يتحدث به بعض السادة يعني أنهم يحاولون أن يقدموا أنفسهم أوصياء على الملف. هل يريدون أن يتم تعيينهم في السلطة تنفيذية بعد إحالة الملف، ليحيلوه هم إلى النيابة، ثم يتم اختيارهم ليكونوا هم قضاة النيابة، وبعد ذلك يتم تحويلهم إلى قضاة جالسين يتولون التحقيق.. ثم تشكل منهم المحاكم.. حتى يرضوا عن الملف وعن سيره.
هذا منطق عبثي.. غير معقول، ولكن الشعبوية للأسف تخرج الإنسان من طور المعقول. أعتقد أنهم حضروا أو شاركوا في إنجاز مهمة نبيلة من صميم اختصصاهم الذي انتخبوا من أجله.. وعليهم أن يتفرغوا لمهمة أخرى.
س: بلغة رجل الشارع؛ هذه عملية إلهاء طويلة؛ متى سنستعيد المال، ومتى سيجن المجرمون؟
ج: صحيح. مثل هذه المحاكمات طويل بطبعه، ويحتاج الكثير من الوقت، وبصفتي مراقبا فإني متفاجئ من السرعة التي تم بها قطع المراحل؛ فلم يطلب أي تمديد لأي مدة يحددها القانون بشأن أي جزئية من جزيات الملف.. بدءا من الستة أشهر التي حددت للجنة البرلمانية، وليس انتهاءا بآجال الرقابة القضائية والحبس التحفظي.. إذا استمر العمل بهذه الوتيرة فسيكون الملف أنجز في فترة قياسية بالمعنى الحرفي.
أما بخصوص الإدانة، واستعادة الأموال، فلا أحد يمكنه أن يجيب، إلا أن طابع الجدية الذي اكتسبه هذا الملف من أول يوم، يجعلنا نتوقع أن يفضي إلى نتائج ملموسة على مستوى استعادة الأموال، وعقاب من يستحق العقاب.. وهذا الملف كذب كل المشككين في كل محطة من محطاته، وأظنه سيكذبهم في المحطة النهائية، وسنجد أحكاما مبنية على الأدلة، وغير قابلة للطعن في مصداقيتها، ولا في إجراءاتها.
س: كيف نثق في القضاء ونحن نعرف وضعه؟
كيف لا نثق فيه؟ هذا قضاء محترم، ويعمل بشكل مهني على هذا الملف، وفيه طاقات شابة، لم يعرف عنها انتماء سياسي، ولم تثر ضدها أية ملفات غش أو رشاوى، وتعمل فرقه بشكل جماعي.. ج: ومهما يقل عنه، فهو قضاؤنا الذي ليس لنا غيره،، ولن نستورد قضاء ليحكم بيننا..
من يشككون في القضاء من المتهمين، سيكون هذا القضاء، بالنسبة لهم، شامخا نظيفا، إذا برأهم، ومن يشككون فيه من خصوم المتهمين سيكون شامخا نظيفا بالنسبة لهم إذا أدان المتهمين..
إذن؛ لن نتوقع إجماعا على توثيق القضاء أو تجريحه.. ولكني أعتقد أنه رغم كل الظروف؛ تعقيد الملف، جدة مثل هذا الملف، الضغط الاجتماعي والسياسي والإعلامي المسلط على هذا القضاء.. رغم كل هذا فسيثبت القضاء جدارته وسيحكم أحكاما يذعن لها الجميع.. وسيحقق للشعب الموريتاني العدالة التي يتطلع إليها في هذا الملف.