مدينة شنقيط .. التراث العالمي الضائع

جمعة, 2024-12-27 01:45
صورة علوية من المدينة تظهر فيها مئذنة المسجد العتيق

رحلة الشتاء تقودنا هذه المرة إلى كنوز التاريخ وأمجاد الحضارات البشرية في بلاد المغرب الإسلامي وسكان الصحراء الكبرى، وتستدعي منا قبل الشروع في موضوع التحقيق قطع أكثر من 500 كلم شمال العاصمة الموريتانية نواكشوط، والأهم من ذلك أن نخوض رحلة موازية عبر  الزمن إلى الوراء أكثر من سبعة قرون خلت حتى نصل إلى تاريخ تأسيس مدينة تحدثت عنها الركبان والقوافل القادمة من بلاد المغرب إلى بلاد المشرق العربي عبر العصور السالفة وكتب عنها الحجيج المغاربة في رحلاتهم القديمة ودون عنها الرحالة العرب والأفارقة. 

يلزمنا كذلك أن نتتبع في عصور لاحقة أثار  حفريات الأركولوجيين في القرن التاسع عشر والعشرين الحائرين في تأملات كنوز المدينة النفيسة حتى توجوا استكشافاتهم بتصنيف المدينة تراثا عالميا سنة 1996 تحت الرقم 750  في لوائح التصنيفات للمنظمة العالمية للثقافة والعلوم "اليونسكو".

اللون الأخضر في الخريطة هو موقع مدينة شنقيط ـ المصدر موقع اليونسكو

مدينة شنقيط .. المدينة المحفوظة في ثلاجة التاريخ، شددنا الرحال إليها في عز الشتاء نسترشد بالأدلة العالمين بمجاهيل هذه الأرض وجبالها الشم ورمالها المتحركة حتى أنخنا المطايا بديارها وأكواخها الدُرّس، تتراءى لنا المعاهد والأطلال،  صخورا ومنازل عتيقة عفى عليها الزمن ولجناها نتتبع آثار العلماء،  نفضنا الغبار عن المكتبات قابلنا أهلها في هذا التحقيق الثقافي الأول من نوعه من حيث الاهتمام بهذه الكنوز التي ستندثر إن لم تبادرها الجهات الموريتانية الرسمية والمنظمات الدولية الثقافية العاملة في المجال..

شُرفٌ شنقيطية عتيقة

 

مئذنة وهاّجة تتعرض للضياع..

من بين الصخور العتيقة الصامدة في تجاعيد الرمال المتحركة دهرا نصل إلى تلك المئذنة الشامخة الشاهدة على العصور الغابرة، مئذنة وهّاجة بلغ إشعاعها مشارق الأرض ومغاربها فقد تفيأ ظلالها كبار العلماء والأدباء والشعراء المعروفين في الجزيرة العربية ب"الشناقطة" مثل العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب كتاب "أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن" الذي هاجر إلى المملكة العربية السعودية منتصف القرن العشرين وتجنس هنالك، ومحمد المختار الشنقيطي العضو في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية والشيخ عبد الله بن بيه الشنقيطي رئيس مجلس الإفتاء الشرعي في دولة الإمارات العربية المتحدة.  

المئذنة قبيل أذان المغرب يظهر في الغرب بعض واحات المدينة

يتحدث إلينا الوجيه الشنقيطي محمدو ولد ابنو فيقول: مدينة شنقيط تأسست على أنقاض مدينة "آبِيْر" التي يبعد موقعها ثلاث كليومترات عن المدينة، فتأسست شنقيط في تحالف بين البكريين والعلويين وما زالت القبائل الشنقيطية تحتفظ بوثائق التأسيس.

ويؤكد ولد ابنو أن المجموعات المؤسسة لمدينة شنقيط قامت بتوزيع الأدوار في محاولة لبناء دولة محلية فتخصصت مجموعات في جمع الأحجار وبناء الدور وتخصصت مجموعات في حراسة المدينة ومجموعات أخرى في الصناعات التقليدية ومجموعات في تدريس العلوم كلها حتى أضحت المدينة ومئذنتها قبلة لساكنة هذه الصحراء.. 

وتؤكد الدكتورة في التاريخ القديم مريم بنت باب الدين أن المئذنة القديمة لمسجد شنقيط تأسست سنة 660 هجرية وهي امتداد لقصر آبِّيرْ الذي يبعد حوالي 5 كلم من المئذنة وقد تأسس القصر الأثري لآبير ـ كما تؤكد الدكتورة ـ سنة 160 هجرية أي أن عمر المئذنة في مدينة شنقيط هو 786 سنة ما يقارب ثمانية قرون.  

المئذنة الوهاجة

هذه المئذنة الضاربة في عمق التاريخ وهذا المسجد المتآكل الجدران ما يزال القيمون عليه مصرين أن يبقى المسجد كما هو بشكله التقليدي ذي اللون الوردي والبناء العريق الذي يتعانق فيه التطريز الافريقي بالعمران العربي في توثيق لتبادل الحضارات على المدينة ومئذنتها الشامخة،  وما تزال أرضية هذا المصلى العتيق من الرمل الخالص حتى يكون محافظا على ما أدركته الأجيال الشنقيطية وورثته كابرا عن كابر. 

الطوب الشنقيطي الذي بنيت منه المئذنة

يتحدث إلينا محمدو الجار القريب للمسجد فيقول هذه المئذنة التي أمامكم عمرها يناهز ثمانية قرون استظل تحتها كبار العلماء والشعراء والقضاة الشناقطة وكتبوا عنها شعرا ونثرا، وانطلقت منها رحلات الحج من المغرب إلى المشرق، وهذا المنزل المجاور للمئذنة ـ يقول محمدو ـ هو منزل محمد قِلي الجد الجامع لقبيلة وافرة في موريتانيا هي قبيلة "الأقْلالْ" وحسب المؤرخين المتخصصين  في الأنساب فإن عدّ الأجيال يوصل ابناء القبيلة الحاليين إلى سبعمائة عام ويزيد.

في التحقيق وقفنا بجنب المئذنة نتأمل ونستنطق التاريخ

مئذنة شنقيط الشامخة صنعت من الطوب لا يدري جيلنا ولا الجيل الذي سبقه كيف بنيت بهذا الطراز النوعي وكيف صعد أولئك البناة حتى رتبوا هذا الطوب بطريقة فنية تحير حتى المهندسين المعماريين الذين صادفناهم في زيارتنا، فهي من الداخل تؤدي بك إلى سلالم تقليدية توصلك إلى سطح علوي يجلس عليه المؤذن مرتين في اليوم الأولى مع غبش الفجر الكاذب يراقب طلوع الفجر الصادق قبل  أن يرفع الأذان فيملأ صوته الجهوري المدينة الهادئة مع تباشير الصباح وزقزقة الطيور ونسائم الفجر، أما صعود المؤذن الثاني فيكون عند وقت الأصيل حين تجنح الشمس في ذلك الأفق البعيد وترسل خيوطا وردية من فجوات النخيل  قبل أن تودع يومها فيرفع المؤذن أذان المغرب، أما توقيت صلاتي الظهر والعصر فقد ثبتت صخرتان حوالي المسجد متى وصلهما الظل يكون ذلك هو ميقات الظهرين.  

مؤذن مسجد شنقيط العتيق يرفع أذان الفجر

جنوب المسجد تتراءى بقايا من الطوب محدثة عن دور كانت مأهولة بالحياة قبل قرون عدة لكن عوامل الطبيعة والإهمال جعلتها تتآكل بعض الشيء ويخشى الأهالي هنا أن تندثر إن لم تبادر الجهات الثقافية الدولية على إنقاذ ما تبقى من منازل فواحة بعبق حضارات المغرب كله.

 

المخطوطات الأهلية.. الكنوز النفيسة:

بعض رفوف المخطوطات الشنقيطية

زرنا عدة مكتبات عتيقة في المدينة فوجدنا مئات الكنوز الثقافية صامدة في وجه عاديات الزمن وعوامل التعرية الطبيعية، في المدينة ما يقارب عشرين مكتبة أهمها : مكتبة أهل أحمد شريف ومكتبة أهل حبت ومكتبة أهل أحمد محمود ومكتبة أهل بلعمش ومكتبة أهل حامن ومكتبة أهل السبتي ومكتبة أهل لوداعة  ومكتبة أهل عبد الحميد  ومكتبة أهل الديدي ومكتبة أهل الحنشي  ومكتبة أهل اعل البخاري ومكتبة أهل الحضرمي ومكتبة أهل البشير ومكتبة أهل عبد العزيز ومكتبة أهل بدي ومكتبة أهل ونان ومكتبة أهل بهي ومكتبة اعمارة ومكتبة الجامع العتيق.

مصحف في مكتبة أهل أحمد محمود مخطوط في الأصل على جلد غزال
 ولجنا مكتبة أهل حامن وطالعنا بعض مخطوطاتها العتيقة، ورأينا بعضها قد أكلته الأرَضة للأسف كما يؤكد المشرف على المكتبة،  ثم زرنا مكتبة أهل حبت فوجدنا أقدم مخطوط هنالك كما يحدثنا القيم على المكتبة في المدينة ويعود تاريخه إلى العام 480هـ كما هو موثق في المخطوط وهو كتاب "تصحيح الوجوه والنظائر في كتاب الله تبارك وتعالى للحسن بن عبد الله بن سعيد بن إسماعيل المعروف بأبي هلال العسكري بخط يمينه سنة 480 هجرية (انظر الصورة).

أقدم مخطوط في مدينة شنقيط عثرنا عليه في مكتبة أهل حبت

زرنا مكتبة أهل أحمد محمود فقرأنا آثار مصحف مخطوط على جلد غزال وهو من أقدم المخطوطات التي عثر عليها في مدينة شنقيط كما تحتوي المكتبة المذكورة على كتب نادرة لا يعرف مؤلوفها بسبب التلف الذي تعرضت له أغلفتها.

يتحدث إلينا المشرف على مكتبة أهل أحمد محمود سيف الإسلام فيقول: رغم صمود هذه المكتبات قرونا عدة واهتمام الأهالي بها كل هذه السنين إلا أن السلطات الموريتانية لم تخصص مبلغا ولو زهيدا في مهرجانات الثقافة التي تنظم هنا لحفظ هذا التراث النفيس.

سيف الإسلام المشرف على مكتبة أهل أحمد محمود

 والغريب ـ يضيف سيف الإسلام ـ أن أربع مليارات أوقية قديمة (عشرة ملايين دولار) خصصت لتنظيم النسخة الأخيرة من مهرجان مدائن التراث ولم يبوب فيها على كلمة المخطوطات رغم أنها الأهم في تراث هذه المدينة.

ويضيف سيف الإسلام : لقد كنا صامدين قرونا من الزمن قبل أن تصل إلينا وسائل حفظ التراث الحديث وسنبقى كذلك إلى الأبد صامدين ننتظر لفتة من وزارة الثقافة ومن المنظمات الدولية العاملة في تراث صنفته من التراث العالمي.

ويتساءل سيف الإسلام: كيف لهذه الكنوز أن تصنف تراثا ثقافيا وطنيا ثم تصنفه اليونسكو تراثا عالميا وفي نفس الوقت تتركه بين يدي الأهالي الذين لا يملكون وسائل حديثة لحفظ هذه المخطوطات ولا يملكون حتى وسائل تأمين لها من السرقة من طرف لصوص الآثار الذين يجوبون العالم. 

يقول سيف الإسلام : لقد زارتنا إحدى الأوربيات العاملة في مجال الثقافة فرأت أوراق المخطوطات متهالكة فانهمرت بالبكاء حزنا على ضياع هذه الكنوز، قلت لها: لا يكفي البكاء نحن نريد تدخلا عمليا بدل العويل والبكاء على ما ترونه تراثا عالميا. 

كنز ضائع من الكنوز الثقافية الموجودة في مكتبة أهل حامني

ويقول الباحث محمد الأمين ولد بلعمش القيم على مكتبة "أهل بلعمش" : إن من ضمن مخطوطات شنقيط  نفائس عديدة نذكر منها مصحفا بخط أحمد لوتيد جد قبيلة لوتيدات الحاجيين ولعل هذا المصحف هو أقدم مخطوط ـ حسب ولد بلعمش ـ كتب بيد شنقيطية عثر عليه حتى الآن  وهو موجود بمكتبة أهل بلعمش.

أقدم مصحف مكتوب بأيادي شنقيطية موجود في مكتبة أهل بعلمش

ويضيف الباحث في التراث ولد بلعمش: أن مخطوطات شنقيط متنوعة وموزعة على عدة علوم معروفة وبالخصوص منها مقررات الكتاتيب في موريتانيا  مثل  التصوف والسلوك والفقه وعلوم القرآن والتوحيد وأصول وقواعد الفقه والسيرة النبوية والتاريخ والتراجم والسير واللغة والحديث والعبادات والنحو والصرف والقرآن العظيم والتفسير والتوسل والطلاسم وعلوم السر والمنطق والأخلاق والبلاغة والرياضيات والحساب الزمني والعروض ومصطلح الحديث والسياسة والطب والفلسفة والفلك.

الباحث في علم المخطوطات محمد الأمين ولد بعلمش المشرف على مكتبة أهل بلعمش

إحصاء رسمي للمخطوطات مصدره مشروع تثمين التراث التابع لوزارة الثقافة الموريتانية

الآثار المدفونة..

يفترض المشرف على مكتبة أهل حامن في مقابلة خصنا بها أن هذه البيوتات المدفونة  في الرمال تخزن صناديق تحتوي على أسفار كثيرة وتحتاج إلى حفريات جديدة تستخرج كنوز هذه الحضارة العلمية الزاخرة.

منازل مدفونة تحت الارض يفترض بعض الباحثين انها تحوي كنوزا

ويؤكد هذه الفرضية تماسك بعض البيوتات الطينية التي شكلت صناديق من الطوب داخل رمال المدينة ، أحيانا تنظر تحت الأرض فترى سقوف بيوت من الطوب و سعف النخيل بها أخشاب وبقايا تثير فضول كل الباحثين عن آثار الحضارة الشنقيطية.

سور المدينة وأبنيتها المتهالكة

الملاحظ أن البيوت المدفونة في الرمال تزداد كل عشر سنوات وذلك أن المدينة رملية وليس أمام ساكنتها إلا التعامل مع الواقع وارتفاع البيوتات كل مرة في ظل انعدام وسائل حديثة لمكافحة التصحر الغازي للبيوت القديمة. 

استغاثة شنقيطية..

أجمع الباحثون والمشرفون على المخطوطات والمرشدون الذين رفقونا في رحلة هذا التحقيق ووقفوا معنا على أطلال المدينة وآثارها القديمة أن المدينة بحاجة إلى لفتة ثقافية وبرنامج حفريات كبير ي ممول من  المنظمات العربية والإسلامية العاملة في مجال الثقافة مثل الأسيسكو والأليسكو ينفض الغبار عن مخطوطاتها وينتشل من براثين الضياع وعاديات الزمن ما لم يتم انتشاله خاصة أن المدينة رملية مهددة بجائحة التصحر التي اجتاحتها أكثر من مرة كما يؤكد ذلك المؤرخون، كما تحتاج اهتماما أكثر من منظمة اليونسكو التي صفنتها ضمن التراث العالمي.

دور شنقيط المتهالكة

 

تحقيق : المختار بابتاح ـ مدينة شنقيط

اقرأ أيضا