لمحات من الدور الجهادي السياسي للشيخ ماء العينين

جمعة, 2014-11-28 21:59

يقف ماء العينين في طليعة علماء ومجاهدي بلاد شنقيط الذين عمت شهرتهم الآفاق فكانوا نماذج للقدوة والجهاد العسكري والسياسي والفكري .

شكلت الوضعية السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الشنقيطي المناخ الملائم لظهور مدرسة الشيخ ماء العينين حيث غياب السلطة السياسية المركزية وندرة التحضر وشيوع اقتصاد رعوي تقليدي تحتكر وسائل إنتاجه فئة الزوايا التي تمثل السلطة الثقافية والروحية في المجتمع الشنقيطي إلى جانب فئة حسان التي تعتبر الذراع العسكري للمجتمع ، ويدور حديثنا على ثلاث محاور أساسية : سياسي ، فكري روحي ، وعسكري .

الدور السياسي للشيخ ماء العينين:

احتلت إشكالية غياب السلطة السياسية في بلاد شنقيط مكانا بارزا في مشاغل الشيخ ماء العينين ، وقد أهله موقعه الاجتماعي ومكانته الروحية وطموحه السياسي وعطاؤه الفكري إلى محاولة ملء هذا الفراغ السياسي وشكلت الخلفية الدينية الصوفية للشيخ ماء العينين سندا قويا لانشغاله مبكرا بالعمل السياسي بعد أن أصبح خليفة والده سنة 1861.

كانت الأوضاع السياسية في منطقة نشأة الشيخ ماء العينين (الحوض) جزءا من بلاد شنقيط وما تمور به من صراعات ناشئة عن غياب سلطة سياسية مركزية ، ومحاولات الاستقطاب الاقليمية وخاصة في الشمال رغم المجهودات التي بذلها العلماء والدعاة لملء الفراغ السياسي كما هو الحال مع حركة الامام ناصر الدين الاصلاحية وإقامة الحدود والدعوة إلى نصب الامام وفتح باب الجهاد وانتاج فقه النوازل لصالح هذه البيئة البدوية فضلا عن الحضور الفرنسي في المنطقة واختلال التوازن السياسي والعسكري لصالح الفرنسيين .

فتح الشيخ ماء العينين عينيه على بيئة هيأت له القيام بدور سياسي في هذه الأوضاع الجهوية المضطربة فالحروب مشتعلة خاصة بين مشظوف ولقلال 1861 وبين لقلال وتجكانت وبين أهل سيدي محمود وكنته ، وفي منطقة الكبلة تجدد النزاع بين إجيجب وأولاد أبييري في فترة إنهارت فيها إمارة اترارزة، بعد أن أحكم الفرنسيون سيطرتهم على الإمارة اضطر الأمير محمد الحبيب إلى توقيع التنازل عن (والو) والأتوات التجارية سنة 1858 .

وفي الجانب الاقتصادي تراجع إنتاج العلك وسجلت كوارث طبيعية ما أدى إلى تركيز جهود الشيخ ماء العينين في العمل على حل الخلافات القبلية ورص الصفوف وتوحيد الجهود.

وبعد أن استقر في الشمال باشر تأسيس نواة الدولة حيث وظف نفوذه الروحي والفكري وعلاقاته القوية بالأمراء وخاصة أمير آدرار أحمد ولد امحمد ثم استقر في بلدة تيارت (اطار) حيث غرس النخيل ونظم حياة السكان محاولا تأسيس مركز حضري واعتمد اسلوب المصاهرة لتقوية نفوذه القبلي وجمع بين وظائف القائد السياسي والقاضي والفتي والإمام .

وتوجد بعض المرويات الشائعة عن مقارنة حركة الشيخ ماء العينين بحركة المرابطين و تشبيه الشيخ ماء العينين بعبد الله بن ياسين .

أسس الشيخ ماء العينين سنة 1872 مركزا للإشعاع الفكري والروحي في الصحراء الغربية (اسمارة) حيث نزحت إلى هذا المركز مختلف المجموعات البشرية معلنة خضوعها السياسي والروحي للشيخ ماء العينين وباشر مهامه الاجتماعية والسياسية مثل حل النزاعات بين "أولاد قيلان" و"اركيبات" بعد سنوات من الصراعات وبين كنته "وأولاد بسبع" وبين "أهل بارك الله "و"أهل بحبيني" على المياه والمراعي كما أفلح في إعادة قبيلة تكنة إلى حظيرته بعد خروجها منها .

وتوج أعماله السياسية بتكليف ابنه الشيخ الطالب اخيار ببناء مدينة اصمارة بمساعدة من سلطان المغرب مولاي عبد العزيز (1894 ـ 1908) وموقع اصمارة موقع ملائم لقبائل الجنوب في تيندوف والمغرب ومراقبة الساحل الأطلسي .

دخل الشيخ ماء العينين عاصمته اسمارة سنة 1899 حيث باشر مهامه فنظم الموالد وأشرف على الرعية وراقب الأسواق وسير القوافل التجارية وغرس النخيل وزرع الحبوب ودرب المجاهدين ولم تأت سنة 1900 حتى كانت مناطق نفوذ الشيخ ماء العينين ممتدة من واد نون حتى أطراف آدرار ولعب أدوارا سياسية لصالح سيدي أحمد ولد عيده أمير آدرار ثم استطاع سنة 1906 تحويل الساقية الحمراء إلى مركز هام للتجارة والسياسية ونسج علاقات قوية مع سلاطين المغرب ومع القوي الأوربية خاصة ألمانيا التي اشترى منها الأسلحة لجهاده ضد الفرنسيين بمؤازرة من سلاطين المغرب .

وفي مجال السياسة الخارجية كان الشيخ ماء العينين من رعايا الدولة العثمانية الإسلامية التي كان يعتبرها الوعاء السياسي الناظم للمسلمين مع محاولاته إقامة سلطة سياسية مركزية في بلا شنقيط كما في مشروعه الجهادي .

ثانيا : الدور الجهادي للشيخ ماء العينين :

تصدى الشيخ ماء العينين للاستعمار الفرنسي ببسالة نادرة فكانت عاصمة الصحراء مركز الجهاد العسكري والسياسي والثقافي واستغل نفوذه لدى سلاطين المغرب لدعم الجهاد وكسب الأنصار وحشد الطاقات بل إنه أصبح ممثل السلطة الشرعية المغربية في البلاد الموريتانية وأعطى مقتل كبلاني سنة 1905 دفعا قويا للشيخ ماء العينين جذب له الكثير من الاتباع وتعاظم تأثيره حيث قام بتهريب الأسلحة عبر الألمان الذين تحالف معهم ضد الفرنسيين.

بعد ظهور طلائع الاستعمار في منطقة الكبله أعلن الشيخ ماء العينين الجهاد ضد الغزاة واستخدام أسلوب الرسائل للزعماء مثل رسالته إلى الشيخ سيدي ورسالته إلى زعيم كنته الشيخ محمد المختار ولد الحامد سنة 1906 وقاد الشيخ ماء العينين وفدا من القبائل الموريتانية ضم "الأقلال" و"إدوعيش" و"تاجكانت" و"ارقيبات" و"مشظوف" و"اسماسيد" و"أولاد بسبع" و"أولاد ادليم" و"لعروصيين" و"مسومة" و"إدوعل" و"الطرشان" و"اولاد عمن" و"أولاد أبير" و"اديبسات" و"اولاد اللب" و"اديشل" و"تاكاط" و"إجيجب" ومن أبرز اعضاء هذا الوفد الكبير أمير آدرار سيدي ولد أحمد ولد سيد أحمد عيده 1277 هـ وأمير اترارزة أحمد سالم بن ابراهيم السالم (ت 1930) والأمير المجاهد محمد محمود بن بكار بن اسويد احمد 1923م وتوجه بهذا الوفد لمقابلة سلطان المغرب مولاي عبد العزيز لطلب الدعم اللوجستي السياسي بعد أن بايع الشيخ ماء العينين على الجهاد رغم اختلاف موقعهم الاجتماعي ومشاربهم السياسية ومنابعهم الصوفية .

وبعد استشهاد بكار شكلت جبهة أوجفت بقيادة المجاهد سيد بن مولاي الزين الذي قاد عملية اغتيال الوالي الفرنسي كبلاني 1905م فكان سيد تلميذ للشيخ ماء العينين . وأرسل الشيخ ماء العينين ابنيه الشيخ حسن و الشيخ طالب اخيار وشقيق العاهل المغربي مولاي ادريس لمؤازرة المجاهدين بقيادة محمد المختار بن حامد في معاركه ضد الفرنسيين الذين تكبدوا خسائر فادحة اضطرت فرنسا لإرسال تعزيزات عسكرية لآدرار ووضعت خطة لمهاجمة مركز الشيخ ماء العينين في اسمارة وفي الوقت نفسه الذي استفحل فيه الموقف العسكري في المغرب حليف المقاومة الموريتانية حيث دخلت القوى الغربية : الإنجليز ، الاسبان ، الفرنسيون ، وأصبحت تسيطر على معظم موانئ المغرب.

انطلقت الحملة الفرنسية على جبهتين : جبهة "تكانت" بقيادة فريرجوه وجبهة آدرار بقيادة العقيد كوروا وعضوية النقباء "إديسون وبابليون وموري ، و استطاعت دخول آدرار : 09/01/1909م ثم تواصلت المعارك في "أنيملان" :" تجكجة" ، "أكجوجت" ، "دمان" تكبدت القوات الفرنسية خلالها خسائر فادحة جعلتهم يصممون على القضاء على الشيخ ماء العينين ومركزه في اسمارة فاستشهد الشيخ ماء العينين 1910م وشكل ذلك نكسة قوية للمقاومة الجهادية وثغرة لم تسد أدت إلى توقف المقاومة الجهادية المنظمة 1934م .

الدور الفكري والجهادي للشيخ ماء العينين :

لم تقتصر جهود الشيخ ماء العينين على الجانب الجهادي والسياسي فقط بل تعدت إلى الجانب الفكري والروحي والثقافي ، وشكلت ثقافته المرابطية المنهل الذي منه ينبع وأسس مدرسة جامعة علمية وفكرية في اسمارة التي بلورت مشروعه الفكري والثقافي .

كانت المحظرة نواة هذا المشروع الفكري حيث تولت إعداد العلماء والدعاةوالمجاهدين الذين أسسوا المشروع الجهادي وقادوا النهج الفكري وأرسوا معالم لمدرسة الشيخ فتدفق التلاميذ والاتباع من كل حدب وصوب واستقروا يبنون ويغرسون ويتعلمون من خلال الزوايا التي أنشأت بمساعدة من سلاطين المغرب الذين كانت له معهم علاقات وطيدة وقوية .

ومن المحاظر التي أنشأها في بلاد شنقيط محظرة أطار التي كان يدرس فيها تلميذه محمد المختار ولد النش ، وساعدت هذه المراكز وخاصة اسمارة الشيخ ماء العينين في جهاده ضد الغزاة واعتمدت الجهاد الروحي والفكري للحفاظ على الهوية الشخصية الموريتانية المسلمة في مواجهة المشروع الفرنسي الذي أعده مسؤول الشؤون الإسلامية في وزارة المستعمرات الفرنسية "بانت مارتى" في عهد الحاكم العسكري زوم والذي يتلخص في اعتماد مبدأين اثنين اتجاه الإسلام في افريقيا الغربية عامة وموريتانيا خاصة : التحكم فيه وتوجيهه حيث كان ، ومحاصرته ومنعه من الانتشار .

وكان للطرق الصوفية دور كبير في هذا الجهاد ، إذ أن التصوف في المغرب قد دخل معترك الحياة وأصبح في قلب الأحداث فعلا ومشاركة وجهادا لمواجهة الظلم والعدوان، لهذا نشأت دول وأنظمة صوفية ، بل أن الأنظمة السياسية في شمال افريقيا والصحراء قد اكتسبت شرعيتها السياسية والاجتماعية من طبيعتها وصبغتها الدينية الصوفية .

في هذا الإطار تندرج حركة الشيخ ماء العينين حيث كان لها قصب السبق في الجهاد المسلح وتحصين الأمة ثقافيا وفكريا عبر المحاظر والكتاتيب ، وقد ترك الشيخ ماء العينين مكتبة ضخمة من (300) مؤلف له شخصيا وكانت اسمارة مركزا ثقافيا وفكريا مرموقا .

يقول المؤرخ المغربي " ابراهيم حركات" وهو يتحدث عن مركز السمارة (السمارة هي آخر مركز حضري تم بناؤه في العصر العلوي قبل الحماية الفرنسية ولها مميزات خاصة لأنها في قلب الصحراء في منطقة الساقية الحمراء وكانت بمبادرة من الشيخ ماء العينين وليس من السلطة الرسمية ....

أسست اسمارة لتكون مركزا ورباطا فكريا وروحيا تنتشر منه المعارف الدينية واللغوية وليكون رباطا للجهاد .

كانت اسمارة جامعة علمية ومكتبة لها اشعاعاتها الرائدة في هذه الصحراء المترامية الأطراف ، وقد وقعت تحت قبضة الإحتلال الفرنسي : 1906م ففقدت بذلك الكثير من ذخائرها العلمية وكنوزها الدينية ) . المغرب عبر التاريخ (ص 316)

وفاته

توفي الشيخ ماءالعينين منتصف ليلة الثلاثاء 21 شوال سنة 1328 للهجرة الموافق ليوم 11 أكتوبر 1910 في مدينة تيزنيت و دفن هناك .

عبد الله ولد مياره

اقرأ أيضا