في تأبين المناضل الخالد محمد المصطفى ولد بدر الدين/ عبد الله سيري باه

أحد, 2020-10-11 22:14

لقد رحل عن دنيانا محمد المصطفى ولد الدين ليلة 6-7 أكتوبر في تيزي وزو بالجزائر بعد صراع طويل مع المرض. وفي نظر أبناء جيلي، ويستوي في ذلك إن كانوا رفاقه أو خصومه أو كانوا مجرد متفرجين على الحياة السياسية في موريتانيا، يبدو رحيله نهاية لحقبة من الزمن. لقد أطلق عليه البعض (بدافع السخرية لدى أناس، وبدافع الإعجاب لدى آخرين) لقب "الرُّبان". أما نحن فكنا نناديه ببساطة وبمودة "بَد"، وهو لقب، خاصة إذا كان كلمة غامضة ومصغرة وحتى مغلفة بالحنان، لا يمكن أن يلخص حقيقة حياة كاملة.

"... وأخصك أنت يا جسدي وأنتِ يا روحي أيضاً: حذارِ من موقف المتفرج الذي لا طائل منه، لأن الحياة ليست مشهداً، ولأن بحر الأحزان ليس مسرحاً، ولأن الإنسان الذي يصرخ ألماً ليس دباً يرقص".

لعلنا لا نستطيع معرفة الأحداث التي انعطفت بحياة الشاب محمد المصطفى نحو المسار الفريد الذي سلكه. ربما كان انخراطه في بدايات شبابه في حزب النهضة وفي التوجه القومي العروبي. وربما تكون تجاربه الأولى مدرساً شاباً (بالكاد تخرج من المحظرة، خِلواً من أي منهجية في التدريس) يهبط مظلياً ليدرس في قرية سونينكية في كوركول. يواجه رفض السكان أولاً، لكنه سوف يتغلب في النهاية على مخاوفه هو نفسه وعلى نقاط ضعفه، وسيكسب صداقة تلك القرية واحترام تلاميذه. أو ربما كان الأمر متعلقاً بإقامته في مصر، في مطلع ستينيات القرن المنصرم، حيث اكتشف هناك تعقيد عالم القومية العربية الواسع، والتيارات المتناقضة التي تموج فيه.

"... وبودي أن أقول لهذا البلد الذي نبت لحمي من طينه: لقد هِمت على وجهي طويلاً وها أنا عائد إلى دَمامة جراحكم المهجورة... وإذا كنت لا أعرف غير الكلام، فإني كلامي موجه إليكم".

أولئك الذين التحقوا بالمدرسة الاستعمارية تعرفوا فيها على المبادئ العظيمة "للحرية والمساواة والأخوة"، وهي مبادئ كان الواقع الاستعماري يجسد نفيها. أما أولئك الذين، مثل بَد، كانوا في نفس السياق ولم يعرفوا غير التعليم المسمى بالأصلي، فقد توصلوا إلى هذه المُثل بوسائل أخرى: عبر تأملاتهم الخاصة، وإسهام التيارات التقدمية والديمقراطية في الحركة القومية العربية. وهم على هذا النحو يقدمون الدليل على أن الموطن الأصلي والوحيد للأفكار الكونية هو الإنسانية، ويثبتون أنه توجد طرق شتى لدخوله. كان بَد ورفاقه، وقد حرروا أنفسهم من ربقة القومية الضيقة، هم من بدؤوا تحولاً يمكن وصفه دون مبالغة بأنه تاريخي. لقد خلعوا أسمال الأعراق والقبائل والطبقيات الاجتماعية، وانطلقوا، متمردين رائعين في ستراتهم المتوهجة، سالكين درباً كان حتى ذلك الحين مجهولاً، وهكذا شقوا طرقاً جديدة نحو موريتانيا جديدة.

لدى عودته من مصر، أسس مع محمدو الناجي وعينينا ولد أحمد الهادي وآخرين نقابة المعلمين العرب، والتي ستكون لاحقاً إحدى البوابات الكبرى لإدخال التعليم العربي في المدارس الحديثة. وسيشكل بعضهم إلى جانب آخرين، ومنهم سيدي محمد ولد السميدع ومحمدن ولد إشدو وأحمدو ولد عبد القادر، مجموعة توكوماجي، وهي إحدى القوى التي وضعت أسس الحركة الوطنية الديمقراطية عامي 1968 و1969.

وقد توسع النضال النقابي إلى معارك أخرى، على أسس أخرى: ضد هيمنة النمط الاستعماري الجديد، وضد المظالم الاجتماعية والعبودية. وكان نضالاً تتخلله مراراً وتكراراً الاعتقالات والإقامة في السجون. فمنذ عام 1966 إلى عام 2005، وباستثناء حكم محمد خونا ولد هيداله، بدا أن الأنظمة المتعاقبة تعتبر إلقاء محمد المصطفي ولد بدر الدين في غياهب السجن أمراً لا بد لها منه لإثبات الشرف.

 

"فمي سيكون فم الأحزان التي ما لها من أفواه، وصوتي حرية أولئك الذين ينهارون في زنازين اليأس".

 

وسيكون ولد بدر الدين، باعتباره إحدى الشخصيات البارزة في الحركة الوطنية الديمقراطية، حين كانت مكونة من فسيفساء تقدمية واسعة، لاعباً مهماً في إعادة بنائها في نهاية سبعينيات القرن الماضي. وسيؤدي ولد بدر الدين دوراً رائداً في مسار إضفاء الطابع الديمقراطي على الحياة العامة، داخل الجبهة الديمقراطية الموحدة للتغير (FDUC)، واتحاد القوى الديمقراطية (UFD)، ثم اتحاد القوى الديمقراطية - عهد جديد (UFD/EN)، كما كان زعيماً بارزاً في اتحاد قوى التقدم الذي كان أمينه العام طوال سنوات...

وبين عامي 2001 و2013، كان إلى جانب رفيقته في النضال كادياتا مالك ديالو صوت الشعب في البرلمان: خطيباً مفوهاً، تميزه السخرية اللاذعة والأجوبة المفحِمة؛ وتربوياً لا نظير له، وجلاداً للمظالم ومظاهر التمييز لا يضع سوطه، ومدافعاً لا يتزحزح عن القضايا العادلة، وحارساً يقظاً لمصالح الوطن وجماهير الشعب.

لقد كان شاباً في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، قادماً من عالم منطوٍ على تقاليده البالية، دخل السياسة من الباب الضيق للقومية ثم انفتح على الآفاق الجديدة، فأصبح العدو الأول للتيارات المحافظة ذات النفوذ القوي التي لقبته، من باب الازدراء، "بدر الصين".

لقد قاوم الهجمات والطعنات الغادرة والإغراءات، وفرض نفسه صوتاً سياسياً وأخلاقياً يحترمه الجميع حتى خصومه. وهذا ما تفسره في المقام الأول خصال محمد المصطفى ولد بدر الدين الاستثنائية: وهي الذكاء الذي لم تخمده السنوات، وانفتاح فكري لا يضاهى، وقدرة لا تنضب على الاحتجاج. كما تفسره أيضاً الشجاعة والصمود، وقبل كل هذا وذلك قرب رجل من شعبه بطريقة لم يؤثر عليها مرور أكثر من نصف قرن.

نَم قرير العين يا "بَد"، وليبوئك الله جنته. ولعل المستقبل يمنحنا متمردين رائعين، يضاهون ما كان عليه محمد المصطفى ولد بدر الدين في حياته.

* الاقتباسات من "كراس العودة إلى أرض الوطن" لإيمي سيزير.
المصدر: جريدة أوريزون (العدد: 7882، بتاريخ: 08 أكتوبر 2020)
تعريب: الشروق ميديا

اقرأ أيضا